الإنسان عمَد الكون

من المعلوم في كل بناء أن يسبق تشييدَ المبنى تحديدُ المعنى. كذلك هو شأن الكون، قبل أن يكون مبناه كان الإنسان في لب معناه عينَ القصد من تصميم نُسقه، وسرَّ المغزى من ترتيب نُظمه؛ بحيث سبق تشييدَ مبنى الكون تحديدُ المعنى الذي من أجله أقيم وهو الإنسان، الذي على مقاسه فُصّل بنيانه وعلى طباعه صُمم نظامه. فإذا وقفتَ متأملاً منظومة الكون بين أسطُر مبناها وأبحُر معناها، فستجدها تشدو لك بمعزوفة رائعة تتناغم ألحانها بين جمال التألق في الحُلل وكمال التناسق في العِلل، دالة لك على أن الذي تزينت له الأكوان وترنمت له الألحان، إنما هو الإنسان الموكل إليه خلافة الأرض. فالكون، هذا البناء الرائع ذو النسق الكامل حول الأرض، لا يمكن أن يُتصور بهذه الروعة في الجمال وهذا التناسق في الكمال، إلا لمعنى دقيق وقصد عميق غايتُه الإنسان الكامل الذي من أجله خُلق، إذ كان مستحضرًا في صلب موضوعه منذ اللحظة الأولى لبنائه.

الكون نسيج متجانس

فإذا استقريت مجمل المشاهدات الفلكية لعلماء الفضاء مستحضرًا هذه المعاني، فستجدها تُجلّي لك الكون “نسيجًا متجانسًا” (Cosmic Web) في “توسع” (Expansion) غير محدود، يجري في جميع “الاتجاهات الكونية” (Isotropy) وكأن الأرض في وسطه. هذا التوسع الكوني الذي انطلق مع حادثة فتق الرتق التي رفعت السماوات عن الأرض، المشار إليها في القرآن الكريم بقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾(الأنبياء:30)، والمعبر عنها في العلوم الفلكية بكلمة (Big Bang) أو “الانفجار العظيم”، هو سارٍ في الكون بسرعة تنافر بين المجرات، تزداد بنفس النسبة التي تزداد بها المسافة الفاصلة بينها كما تقر بذلك نظرية “هابل”.(1) وعليه فبما أن سرعة هذا التوسع تبقى متصاعدة بتصاعد المسافات الفاصلة بين المجرات، دون أن تُمد بأية قوة محركة رغم وجود عامل التجاذب الحاصل بين المجرات، اللهم إلا تلك القوة الأولية الناتجة عن وقع الانفجار الذي تولد عنه فتق الرتق، فذلك يعني أن هذا التوسع الساري في الكون هو قائم بقوة قادر، كما دلت عليه الآية في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(الذاريات:47) التي توحي بأن الله هو الذي يتولى مهمة التوسيع بفاعلية منه، يبثها سبحانه في الكون ليظل في انتشار مستمر. ولا ينبغي أن يُفهم التوسع على أنه نتيجة عفوية لفارق الكثافة بين الأجرام ومادة الكون، تنجم عنه قوى نابذة تؤدي إلى تنافر الأجرام وتباعدها في الكون، كشأن بالونات هواء موضوعة داخل جسم مادي أكثر كثافة كالماء مثلاً؛ فهي لابد أن تتصاعد إلى أعلى وتتنافر في اتجاهات مختلفة، فهذا لا يمكن أن يحصل في الكون، لأن عامل الجاذبية بين الأجرام يلعب من جهة أخرى دورًا مضادًّا.

إذن، هناك قوة تتولى توسيع الكون في نسق التناغم بين مكوناته، ولولاها لأطبقت السماوات على الأرض ولانقبض الكل على الإنسان. وتلك هي قوة الله التي تحفظ الكون من الانكماش بفعل مباشر منه سبحانه، كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(الحج:65). ولذلك فالله سبحانه وتعالى لما وصف لنا ظاهرة التوسع، نسب المهمة إلى ذاته العلية وأنه يتولاها سبحانه بفعل مباشر صادر عن قوته الخفية. وأكد لنا سبحانه ذلك، من خلال صيغة التوكيد التي جاءت بها الآية ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ للدلالة على قوة في الفعل، تقابل فعلاً مضادًّا تمثله تلك القوة الجاذبة التي تعمل في الاتجاه المعاكس على تجميع الأجرام في الكون، الذي من خلال خصائصه الفيزيائية يبدي نزوعًا شديدًا إلى الانقباض.

ولعل ذلك ما خلصت إليه نتائج أحدث أبحاث علماء الفضاء من مجموعتين مختلفتين للبحث العلمي؛ مجموعة “Supernova Cosmology Project” ومجموعة “High-Z Supernova Team”.(2) هاتان المجموعتان تبيَّن لهما من خلال المشاهدات الفضائية وقائع مذهلة؛ اكتشف الباحثون من خلالها مجرات بعيدة تتباعد عن مجرتنا بسرعات تفوق بكثير ما ينبغي لها أن تكون عليه. مما يعني -كما فسروه- أن سرعة التوسع في الكون تتصاعد كما لو أن قوة غامضة سمّوها “الطاقة الظلماء” تعارض قوة الجاذبية بين الأجرام التي تعمل من جهتها على تجميع الكون وانكماشه. وهذا جعلهم يندهشون، واضطرهم إلى الإقرار بضرورة وجود قوة خارقة في عالم آخر يقابل هذا الذي نحن فيه، هي التي تمد عالمنا بالطاقة وتتولى تدبير نظمه كما جاء في تقاريرهم.

السَّبْح والفاعلية الذاتية

من جهة أخرى، إذا رجعنا إلى ما تنطوي عليه حقيقة هذا التوسع الكوني، من خلال وقوفنا على حركة الأجرام السماوية في نسق هذا التوسع المعبر عنها في كتاب الله بعملية السبح الواردة في قوله تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(الأنبياء:33)، فسنجد أن ظاهرة التوسع الكوني -حتى تنضبط في نسق منسجم- كان لابد لها أن تقترن بتناغم الفاعليات الذاتية المبذولة من مختلف الأجسام السماوية.

ففي الاصطلاح اللغوي والاستعمال القرآني لكلمة “سبح”، نجد أن هذه الكلمة تعني كما قال القرطبي رحمه الله(3) في تفسير قول الله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً﴾(المزمل:7): “الجري والدوران ومنه السابح في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح أي: شديد الجري”. وهذا يفيد ضرورة وجود عامل تأثيري لقوة ذاتية في الجسم حتى تتم عملية السبح. فإذن، هي حركة ناتجة عن طاقة محركة من داخل الجسم، كما يحصل ذلك عند الطيور السابحة في جو السماء، أو الحيتان السابحة في عرض البحار، التي إذا رأيتها انسجمت في لوحات سبحٍ جماعي فلحصول تناغم تواصلي بينها.

إلا أن دور الكثافة يبقى مع ذلك قائمًا بين الجسم السابح والمادة التي يسبح فيها، بحيث لا يتسنى لأي جسم مادي أن يتنقل بحركة ذاتية فيه، إلا إذا كان في وسط مادي أقل كثافة من كثافته. وكلما ازدادت كثافة المادة التي يسبح فيها إلا وصعبت عليه الحركة. وبذلك جاء التعبير القرآني: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(يس:40) دالاًّ على تناغم حركة الأجرام السماوية في نسق السبح العام المنضبط بفعل الفارق بين كثافة مادة الأجرام وكثافة مادة الكون من جهة، وبين كثافة كل جرم مع الجرم الذي يحوم حوله من جهة أخرى… مما يجعل القمر يدور حول الأرض، والأرض بقمرها تدور حول الشمس، والشمس بكواكبها في فلك المجرة، وكل مجموعة تنضبط في فلكها داخل منظومة الكون الفسيح.

إذن، هذه الفاعلية الذاتية التي أودعها الله تعالى في كيان الأجسام السماوية لتظل سابحة في الفضاء إلى مدة أجلها، تضفي عليها من الانتظام والانسجام ما لا يمكن التعبير عنه إلا بما جاء به الوصف القرآني في قول الله تعالى: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾(الملك:3). ولعل هذا ما وصلت إليه أحدث البحوث العلمية لأشهر عالم فلك أمريكي هو “ستيفن واينبرغ”، الحاصل على جائزة نوبل(4) الذي رفع الستار عن حقيقة لم تكن معروفة من ذي قبل، وهي ظاهرة التجانس الحاصل في الكون. فأظهر من خلال أبحاثه أن الأجسام السماوية تخضع لظاهرة بديعة من التجانس، تتداخل فيها المجرات فيما بينها محيطة بالأرض من جميع الجهات. وهذا يفيد أن الخصائص المميزة لكل مجرة ستتوحد في انسجام تام مع خصائص المجرات الأخرى، كما بيّن ذلك موضحًا في الشكل التالي:

هذا الشكل يُجلي لنا حقيقة هذا التجانس؛ بحيث إذا كنتَ في المجرة (1)، فإنك ستراها تتوسط الكونَ، وترى منها المستوى الذي يحمل نقطة “أ” متميزًا بخصائصه الموحدة. ثم إذا كنتَ في المجرة (2)، فستراها أيضًًا تتوسط الكون، وترى منها المستوى الذي يحمل نقطة “ب” متميزًا كذلك بخصائصه الموحدة. فإذا تداخلت نطُق المجرتين (1) و(2)، تجانست الخصائص المميزة لكل واحدة منهما بمقتضى التوحد الحاصل في نقطة التقاطع “ج” وفقًا للمعادلة التالية:

أ = ج و ج = ب ← أ = ب.

فهذا الشكل إذن، يظهر لنا حقيقة التجانس الحاصل بين المجرات بمقتضى التداخل القائم بين نطقها. فإذا كانت كل مجرة لها من الخصائص ما يميزها عن غيرها، فإن التداخل بين نطقها سيلغي هذا التمايز في الخصائص ويحدث لها تجانسًا يوحّد فيما بينها. وهذا ما يضفي على الكون صفة التوحد التي تحمل في دلالاتها وقعًا قويًّا لأثر الفاعلية الخفية التي لولاها ما ترتبت نظمه في هذا التماسك العجيب، وما تشكل بنيانه في هذا التجانس البديع.

السماء وحبك نسيجها

هذا التجانس الحاصل بين المجرات والذي يشكل بناء السماء، إذا أخذناه من بعد نظرية “كوبرنيك” التي نجد لها أصولاً في التصورات الفلكية لـ”ابن طفيل”، والتي تبين فلكيًّا أن الأرض تتوسط الكون، بحيث من أية جهة من الأرض نظرتَ إلى الكون رأيته محيطًا بك، فسنجده يعبر عن تماسك رائع لنسيج الكون حول محيط الأرض، كشأن خيوط العنكبوت المحبوكة حول دائرة مركزية. وهذا التشبيه لنسيج الكون بنسيج العنكبوت الذي أصبح اليوم متداولاً في التقارير العلمية لعلماء الفضاء، بما يشاهدونه من مراصدهم الفلكية. ليس بغريب إذن ما أخذناه من بعده الشكلي، فقد جاء في تفسير القرطبي لقول الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾(الذاريات:7) أن عكرمة قال في تفسير “الحبُك”: “ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، يقال منه: حبك الثوب يحبكه حبكًا أي أجاد نسجه”. وفي الجلالين: “الحبك” هي الطرق. ولعل في التعبير الدقيق لقوله تعالى ﴿ذَاتِ الْحُبُكِ﴾، إشارة إلى أن السماء هي التي تتولى مهمة حبك نسيجها، تمامًا كما تقوم العنكبوت بنسج خيوطها من جهدها الذاتي. وهو دلالة أخرى على تلك الفاعلية الذاتية للأجسام السماوية في بناء نسيج الكون كما تقر بذلك التقارير العلمية لعلماء الفلك، تلك التقارير التي باتت اليوم أكثر استعمالاً من أي وقت مضى لمصطلحات القرآن الكونية مثل؛ “نسيج الكون” (Cosmic Web)، و”بناءه” (Cosmic Building)، و”توسعه” (Expansion)، و”تزيينه بالمصابيح” (Beads on a String)، و”حبكه” (Filaments)، وما إلى ذلك من المصطلحات التي تؤكد السبق العلمي للقرآن الكريم ودقة تعبيره البلاغي.

وحدة المنشأ وآنية التكوين

إذا تتبعت هذه “الحبك” في الكون إلى مركز النسيج، وصلت إلى مجال السماء الدنيا وهي المحيطة مباشرة بالأرض، فوجدتها زينت للإنسان بالمصابيح. فإذا أتممت المسير في اتجاه المركز، ولجت نطاق ما بين السماوات والأرض الموصوف عند الله بقوله تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾(مريم:65)، فتبين لك المغزى من الإشارة إلى البينية في التلميح إلى مركزية الأرض من السماوات السبع المحيطة بها… تلك البينية التي تحمل في طياتها دلالات قوية على وحدة المنشأ، لا يسطع ضوؤها إلا من خلال إطلالنا على البعد الزمني لنمو كل من السماوات والأرض. فقد جاء في كتاب الله ما يشير إلى تقديم خلق السماوات على خلق الأرض، كقوله عز وجل: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾(النازعات:27-30)، كما جاء فيه أيضًا ما يفيد تقديم خلق الأرض على خلق السماوات، كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(البقرة:29)، مما يعني أن خلق السماوات والأرض يبقى مشمولاً في تدبير الله المنزه عن الزمان والمكان، بخاصية المصاحبة الزمنية التي تدل على وحدة المنشأ وآنية التكوين. وهو ما وقف عليه المفكر الإسلامي الفرنسي “موريس بوكاي”،(5) حيث قال في شأن التحديد الزمني لمراحل خلق السماوات والأرض: “المذكور (يعني في القرآن) هو مجموعتان من الظواهر، جزء منها أرضي والآخر سماوي. وقد حدث كلاهما في اتصال مع الآخر، وبالتالي فذكر هاتين المجموعتين من الظواهر، يعني أن الأرض كانت بالضرورة موجودة قبل أن تمد، وعليه فقد كانت موجودة حين بنى الله السماوات. وينتج من هذا فكرة المصاحبة الزمنية لنمو كل من السماوات والأرض بشكل تتداخل فيه الظاهرتان”.

من ناحية أخرى، ومما يزيد مشهد وحدة بنيان السماوات والأرض وضوحًا، ما جاء به كتاب الله من وصف لتوحد أقطار السماوات والأرض في الإشارة الواردة في قول الله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾(الرحمن:33)؛ فكون كلمة “أقطار” ورد ذكرها موحدًا بين السماوات والأرض، يعني أن السماوات والأرض شكلت -وما تزال- وحدة متكاملة، لأن القطر في الاصطلاح الهندسي، يعني الخط الواصل بين طرفي شكل معين مرورًا بمركزه… فإذا تصورنا الأقطار كخطوط تمر بمركز الأرض لتستقيم في جميع الاتجاهات السماوية المتعامدة مع سطحها، فسيبدو لنا عالم السماوات والأرض كشكل متكامل تحيط فيه السماوات بالأرض حول مركز كائن في نواتها. وذلك ما يحمل الإشارة إلى توسط الأرض لعالم السماوات، ووجود الإنسان في قلب هذا البناء.

الإنسان هو المقصود

وهنا يبدو لنا مضمون قرار الأرض من مفهوم التوسع القائم في البناء السماوي المتعامد معها الوارد في قوله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾(غافر:64). فالكل يشكل وحدة متماسكة بين كتلتين لا ينبغي لأي منهما أن تزول عن الأخرى، كما جاء في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾(فاطر:41) في إشارة إلى أن السماوات -وإن ورد ذكرها بصيغة الجمع- فهي لا تشكل في سياق الآية سوى كتلة واحدة تقابل كتلة الأرض في تماثل شامل. كما يقر بذلك فعل “زال” الذي جاء بصيغة المثنى “تزولا – زالتا” وليس بصيغة الجمع، للدلالة على تطابق كتلتين كانتا ملتصقتين عند بدء التكوين: ﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا﴾ ففصل الله بينهما ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ بظاهرة التوسع التي انطلقت بحادثة فتق “الرتق”، لتظل سارية في جميع الاتجاهات الكونية المتعامدة مع الأرض، مما يوحي بأن الأرض كانت في قلب البناء الكوني منذ اللحظة الأولى، وأن الإنسان الذي من أجله خلقت، كان قبل أن يوجد فيها مستحضرًا في صلب موضوعها، وكأنه كان عين القصد من كل ذلك.

وهذا ما ختم به عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي “ستيفن واينبرغ” كتابَه “الثلاث دقائق الأولى للكون” قائلاً: “من المستحيل ألا يعتقد الإنسان بوجود علاقة خاصة بينه وبين الكون، أو أن يعتقد بأن الحياة إنما هي إفاضة لسلسلة حوادث راجعة إلى الدقائق الثلاثة الأولى للكون، بل من المؤكد أننا كنا مستحضرين منذ البداية”. وهو ما سبقه إليه “ابن عربي” منذ أزيد من (900) سنة في كتابه “نقش الفصوص”(6) الذي خلص فيه -رحمه الله- إلى “أن الإنسان عمَد السماوات والأرض، وأن العالم لا معنى له بدون وجود الإنسان، وأن الإنسان كان المقصود من خلق السماوات والأرض، فإذا انقضى أجله خرت السماوات على الأرض بزواله، وانتقلت العمارة إلى الآخرة من أجله”.

إلا أن هذا الإنسان العمَد الذي من أجله خلق الله السموات والأرض، والذي من أجله يمسك سبحانه السماء أن تقع على الأرض ليس أي إنسان، وإنما ذاك الذي نجد الإشارة إليه واردة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول الله الله” (رواه مسلم)، أي ذاك الإنسان الخليفة الذي من أجله يؤخر الله قيام الساعة. لأنه إذا كان القرآن خاطب برفع السماء بلا عمَد في قول الله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾(الرعد:2)، فإنه بالمقابل يخبرنا في قوله سبحانه: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(الحج:65) أن ذلك الرفع الذي تولاه سبحانه بقوته وحفظ به العباد برأفته ورحمته، إنما هو من أجل ذلك الإنسان الذي بصفاء فطرته ونقاء سريرته، بقي منسجمًا مع نظام الكون، متكاملاً مع كماله، قائمًا بحق الخلافة. فإذا انعدم الكمال من الإنسان اختل كمال الكون لانعدام المناسبة، فقامت الساعة التي كما جاء في الحديث: “لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق” (رواه مسلم).

ــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1) Hubble (1936): The realm of the Nebulae, Yale University Press

(2) Sciences et Vie H.S. n°:221, Dec. 2002, Paris, p:37.

(3) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الشعب، القاهرة.

(4) Weinberg S. (1978): Les Trois Premières Minutes de l’univers. Ed. Seuil, n°:144, p:211.

(5) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، لموريس بوكاي، دار المعارف 1978، بيروت.

(6) نقد النصوص للشيخ بدر الدين عبد الرحمن بن أحمد الجامي (ت 898هـ) في شرج نقش الفصوص، للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الحاتمي (ت 638هـ)، دار الكتب العلمية 2005، بيروت.