الإنسان بين المحيط الحيوي والتوازن البيئي

 

إن الحفاظ على المحيط الحيوي (البيئة) مسؤولية الجميع أفرادًا وشعوبًا.. فالمجـــــال الحيوي يعني الحياة، حيث يلتقي للحفاظ عليها المهتمون في العلوم والتكنولوجيا والإنسانيات والقانون وقنوات المعرفة الأخرى.. فالاهتمام الحيوي يعبّر عن الإيمان بوحدة المعرفة ووحدة المصير. وإذا أردنا التعرف على مدى ترابط عناصر البيئة بعضها ببعض، وتأثير بعضها في البعض الآخر، فنكتفي بالإشارة إلى عدد من العوامل المتداخلة والمتفاعلة في البيئة الصغيرة المحددة. ولو أخذنا عنصرًا من عناصر البيئة كالهواء مثلاً، نجده يتفرع إلى العوامل التالية: تركيبه، والضوء، والرطوبة، وكمية المياه المتوفرة، ودرجة الحرارة، ومقدار التبخر، وحركة الرياح واتجاهها.. وإن كل عامل من عوامل هذه العناصر يتألف من عوامل أصغر، كما تتفاعل كل هذه العوامل مع بعضها بعضًا.

ولو أخذنا عاملاً واحدًا فقط، لوجدنا تأثيره التفاعلي على بقية العوامل؛ فمثلاً وجود نباتات باسقة، يقلل كمية الضوء الذي يصل إلى التربة، ويقلل من الماء الموجود فيها، ولكنه يزيد في كمية بخار الماء في الهواء. وقلّة الضوء الذي يصل إلى التربة، يجعل أنواعًا معينة من النباتات القصيرة المُحِبَّة للظل تنمو تحت النباتات الباسقة، ويمنع نمو أنواع أخرى من المُحِبَّة للضوء، كما يجعل سطح التربة في مثل تلك الحالة مسكنًا لأنواع معينة من الحيوان دون غيرها.

ولو حدث -لأي سبب كان- أن قُطعت النباتات الباسقة أو ماتت، لتغير الاتزان السائد في تلك البيئة؛ إذ عندها يصل الضوء ساطعًا حيث كان الظل، فتتأثر النباتات الصغيرة التي كانت تنمو، فتموت وينمو غيرها من الأنواع المُحِبَّة للضوء، وتهرب أو تموت الحيوانات التي كانت تسكن هناك محتمية بالظل، وتسكن البيئةَ حيواناتٌ غيرها من التي لا تعبأ بالضوء أو تفضله. وبالطبع لا يتم ذلك فجأة، بل يستغرق بعض الوقت.. وقد تعود النباتات الباسقة للنمو مرة أخرى، لتعيد الظل وتعيد تغير اتزان البيئة إلى شبه ما كانت عليه في البداية.. فاتزان البيئة تحكمه العوامل التي تحدد البيئة وتحد من طغيان عنصر فيها على الباقين(1).

وقد تكون التغيرات هذه دورية، كما تكون غير منتظمة، ولكن الواضح أن الغالبية الفعلي من هذه التغيرات لا تسبب إخلالاً بالاتزان الديناميكي في البيئة، على العكس من ذلك تسبب التغيرات الضخمة التي تحدث نتيجة الكوارث الطبيعية إخلالاً بهذا الاتزان البيئي يؤدي إلى أن تأخذ البيئة طابعًا آخر مختلفًا عن طابعها الأول. وقد يكون التغيير دائمًا ويكون مؤقتًا لا تلبث البيئة أن تصلح آثاره وتعود سيرتها الأولى.

التـوازن البيئي على الأرض

هناك ثلاثة قوانين إيكولوجية تسيطر على الطبيعة وضحها علماء البيئة(2):

الأول: إن جميع أشكال الحياة يعتمد بعضها على البعض الآخر، وتتبادل العلاقات فيما بينها؛ فالفريسة ترتبط بمفترسها للحد من تزايد أعدادها، والحيوان المفترس يعتمد على الفريسة مصدرًا لغذائه.. وفي الوقت الذي تتفاعل فيه أشكال الحياة هذه فيما بينها، فإنها تقيم نوعًا من العلاقات المتبادلة مع المكونات غير الحية في البيئة.

الثاني: إن استقرار الأنظمة البيئية، يعتمد على تنوع وتشابك تلك الأنظمة؛ فالغابة الاستوائية التي تحوي مائة وخمسين نوعًا من أنواع النباتات، هي أكثر استقرارًا من غابة يخرجها الإنسان بنوع واحد أو نوعيين من تلك النباتات.. هذا هو قانون الثوابت.

الثالث: محدودية الموارد.. ذلك أن الطعام والماء والهواء والمعادن والطاقة.. كلها محدودة. ويمكن القول إن هناك حدودًا لمدى نمو المنظومات الحية، وقد فرضت هذه الحدود -بشكل قاطع- عوامل كثيرة منها محدودية حجم الكرة الأرضية وكذلك محدودية ما يصل إلى الأرض من الطاقة الشمسية. وهذه القوانين الإيكولوجية الثلاثة المتداخلة بعضها ببعض، تشكل الكل الشامل للبيئة. ومن الأمثلة التي توضح صيغة التوازن، المثال التالي:

في بيئة تنبت العشب يعيش نوع من الأرانب يتغذى على هذا العشب، كما يعيش بعض أنواع الثعالب التي تعيش على افتراس الأرانب. وفي مثل هذه البيئة تنشأ علاقات واضحة بين الكائنات الحية الثلاثة؛ فالعشب يغذي الأرانب، والأرانب تغذي الثعالب. وكلما ازداد العشب ازدياد عدد الأرانب، ومع ازديـاد عدد الأرانب يزداد عـدد الثعالب.. وبالتالي نجـد أن ازدياد عدد الأرانب التي تأكل العشب يؤدي إلى نقص في العشب، وازدياد عدد الثعالب التي تفترس الأرانب يؤدي إلى نقصان عدد الأرانب، وقد يؤدي نقصان عدد الأرانب، إلى تناقص في عدد الثعالب المتزايدة وهكذا.. وبالعكس من ذلك، يؤدي نقص عدد الأرانب إلى تزايد العشب، وهذا يؤدي إلى تكاثر الأرانب، ومثل ذلك يحدث عند الثعالب، وتستمر هذه الدورة متكررة في توازن ديناميكي ما لم تتدخل عوامل خارجية غير العوامل الثلاثة لتخل هذا التوازن.. وعندها تختلف علاقات الكائنات الحية في البيئة وأعدادها، إلى أن تتزن مرة أخرى مع الظروف والعوامل الجديدة. وقد يكون التغير أو خلل التوازن عنيفًا بالنسبة لنوع من الكائنات الحية، إلى حد عدم القدرة على التكيف مع هذا التغير الذي ينتهي بانقراض النوع.

هذا المثال الذي أورده الباحث(3) مبسط جدًّا للإيضاح، ولكن الصورة الحقيقية أكثر تعقيدًا. ذلك أنه لا توجد بيئة مستقلة منفصلة. فهناك بيئات صغيرة ولكنها أجزاء لبيئات أكبر تتأثر بها وتتفاعل معها، كما تتداخل عوامل كل منها في بعضها.. وتتفاعل البيئات الكبرى مع بيئات أكبر منها حتى تصل إلى بيئة كبرى متكاملة هي بيئة الكرة الأرضية بكل ما فيها وما عليها وما حولهـا.

وقد كان الإنسان -ككائن حي- في بداية عهده بالحياة على هذا الكوكب، يخضع لهذا التوازن وشروطه تمامًا كما تخضع بقية الكائنات الحية. ولكنه بما حباه الله من ميزات خاصة، سرعان ما بدأ يتفادى الآثار الضارة لعوامل البيئة، وبخاصة منها ما يكون على شكل كوارث، أو على الأقل عوامل فعالة لا يمكن للكائنات الحية الأخرى تفاديها؛ فالبرد الشديد الذي يفوق حد الاحتمال، كان في الماضي البعيد عاملاً يؤدي إلى موت الإنسان. ولكن الإنسان بعقله وتفكيره سرعان ما استطاع تفادي هذا الأثر؛ بأن سلب فراء بعض الحيوانات لتدفئة نفسه، ثم اكتشف النار واستخدمها في تخفيف عامل البرد الشديد. وازدادت قدرة الإنسان بتفكيره العلمي حتى استطاع في عصر الحضارة العلمية الحديثة أن يسيطر على جميع عوامل البيئة المعادية، وأن يعيش رغمًا عنها وعن آثارها.

ترويض الطبيعــة

لقد أصبحت العلاقة المتبادلة بين العناصر المختلفة في الكيان الحيوي الأرضي حقيقة علمية ثابتة، شأنها شأن التمثيل الضوئي والدورة البيولوجية بين التربة والنبات، أو عمليات دوران الكربون، أو الأزوت في الطبيعة. إنه نظام دقيق يحكم تناسق الكون، كلما أوغلنا فيه تجلت لنا قدرة الخالق الذي جعل لكل شيء سببًا، وكلما ازداد الإنسان معرفة بربه كلما تبيّن له أن النجاحات التي حققها في التقنية والتقدم، ما هي إلا توكيد لضعفه وعجزه(4).

وهكذا يتبين لنا أن نجاح الإنسان في صراعه مع الطبيعة، وتفوقه في معركة التحدي والاستجابة التي يقول بها فيلسوف الحضارة “توينبي”، إنما على حساب التوازن الدقيق القائم بين عناصر البيئة. لكن السيطرة على جانب معيّن من البيئة، كان يقابَل دائمًا بِردّ فعل عنيف وبمزيد من التحديات من جانب الطبيعة، كما لو كانت الطبيعة تريد إعادة التوازن البيئي القديم، أو إيجــاد نوع جديد من التوازن يلائم الظروف الجديدة الناشئة عن تدخل الإنسـان والتغييرات التي أحدثها. فمحاولة الإنسان القضاء على الحشرات والآفات -مثلاً- التي تؤلف جزءًا من نسق البيئة الطبيعية المتوازنة، انتهت بالإنسان إلى تلويث الهواء الذي يستنشقه والماء الذي يشربه، بل وإلى تلويث نفسه ونقل السموم إلى جسمه هو ذاته(5).

عالميــة التلوث

إن تلوث البيئة وإن كان يبدو لأول وهلة أنه مشكلة محلية الحدوث، إلا أنه يعدّ مشكلة عالمية بالدرجة الأولى. فالملوثات -تحت تأثير عوامل كثيرة- لا تعرف حدودًا جغرافيًّا تتوقف عندها، فهي تتصف بقدرتها الكبيرة على الحركة المرنة، والانتقال من موقع إلى آخر على المدى القريب والبعيد معًا، مما يعطي للمشكلة صفة العالمية. وبالتالي تسهم الرياح والسحب والتيارات المائية في نقل الملوثات من بلد إلى آخر. فالأبخرة والأدخنة والغازات الناتجة من مصانع غرب أوروبا، تنقلها الرياح إلى بلاد نائية وأماكن بعيدة كجزيرة جرنيلاند. كما تنقل أمواج البحر بقع النفط التي تتسرب إلى المسطحات المائية -نتيجة اصطدام الناقلات النفطية- من موقع إلى آخر مهدِّدة بذلك الشواطئ الآمنة، والأحياء البحرية بمختلف أجناسها وأنواعها. وقد وضح الحديث النبوي الشريف أن البشرية جميعًا في مركب واحد، إذا تسبب البعض في خرقه وأحدث به ثقبًا، غرق الناس جميعًا إلا أن يضربوا على يد المفسد حتى ينجي وينجوا جميعًا.

وإذا كانت البيئة موطن الحياة، فإن أول ما يجب على الإنسان تحقيقه -حفاظًا على هذه الحياة- هو حماية هذه البيئة. وحماية البيئة تستلزم أمرين هامين، الأول فهم البيئة فهمًا صحيحًا بكل عناصرها ومقوماتها وتفاعلاتها المتبادلة، والثاني العمل الجماعي الجاد لحماية هذه البيئة وضمان استمرارها موطنًا مقبولاً للحياة.

من أسباب الخلل البيئي

أ- النمـو الانفجاري في عدد السكان: يبيّن التتابع التاريخي لتزايد السكان، أن هذا التزايد يسير في لولب تقصر حلقاته باستمرار، وسيصل في المستقبل المنظور إلى حد هائل يصعب معه توفير الغذاء ومتطلبات الحياة البشرية الأخرى لهذا العدد الهائل من السكان. والنمو المتعاظم في عدد السكان يمثل المشكلة الرئيسية للبيئة، فهو يُحدِث آثارًا موجعة فيها، كما أن أيّ مشكلة بيئية أخرى يتناسب -بلا شك- مع حجم الزيادة في عدد السكان.

بـ- الثـورة العلميـة والتكنولوجيـة: إن ما يميز المجتمع المعاصر من المجتمعات التي سبقته تمييزًا جوهريًّا، هو تسارع التغييرات التي أحدثتها وتُحدِثها الثورة العلمية والتكنولوجية في البيئة وضخامتها وشمولية بعض آثارها.. فمع هذه الثورة برزت قضيتان أو مشكلتان هما تلوث البيئة، واستنزاف مواردها. والتلوث مشكلة كبيرة أعطيت الكثير من الاهتمام بالنظر لآثارها السلبية في نوعية الحياة البشرية. فالملوثات تصل إلى جسم الإنسان في الهواء الذي يستنشقه، وفي الماء الذي يشربه، وفي الطعام الذي يأكله، وفي الأصوات التي يسمعها.. هذا ما عدا الآثار البارزة التي تحدثها الملوثات بممتلكات الإنسان وموارد البيئة المختلفة. أما استنزاف موارد البيئة المتجددة وغير المتجددة، فهي قضية تهدد حياة الأجيال القادمة.

الخلل القيمي

لقد أحدث تدخل الإنسان في التوازن الطبيعي لأنظمة البيئة الكثير من المشكلات، لبعضها آثار عالمية، كتغير المناخ مثلاً. وهناك مشكلات أخرى تقتصر على أجزاء معينة من سطح الأرض، مثل انحسار الغابات في بعض المناطق، وانقراض بعض الحيوانات البرية والبحرية، وزحف الصحارى.. وغيرها. ويتبيّن أن الإنسان قد نسي -أو تناسى- أنه عنصر مكمّل لعناصر البيئة، واعتبرها مخرنًا ضخمًا للثروة، فأطلق لقدراته البيولوجية العنان لاستغلال إمكاناتها والسيطرة عليها. وقد أدى هذا الخلل في تصور الإنسان، إلى مجموعة من المشكلات تكاد تذهب بحياته على هذا الكوكب. فالنمو الانفجاري في عدد السكان مشكلة.. والتلوث مشكلة.. واستنزاف موارد البيئة مشكلة.. وإخلال التوازن الطبيعي للبيئة مشكلة.. إنها مشكلات صنعها الإنسان في البيئة، وعليه اليوم أن يواجهها ويتغلب عليها، ولكن قبل ذلك عليه أن يفهمها(6).

العلاج إذن يبدأ -قبل كل شيء- في نفوس البشر وسلوكهم. إن الإنسان هو نقطة البداية، مثلما هو الهدف، وبغير الانطلاق من النقطة الصحيحة لا جدوى لحديث عن حلول للاختلال البيئي وسواه، وفي كل الأحوال (إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(يونس:44).

فسيطرة الإنسان على قوى الطبيعة لا تكفي وحدها لبناء الحضارة، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك -أيضًا- سيطرة الإنسان على نوازعه الداخليه، وأهوائه وشهواته، منضبطة بالقيم الدينية والعقلية والأخلاقية والجمالية(7).. وبذلك تتم عمارة الأرض كما أراد الله، ويكون الإنسان بحقٍّ خليفة لله في أرضه.

 

(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.

الهوامش

(1) العلم ومشكلات الإنسان المعاصر، للدكتور زهير الكرمي، ص:203-204، عالم المعرفة، العدد:5، الكويت 1978.

(2) العلم ومشكلات الإنسان المعاصر، للدكتور زهير الكرمي، ص:19-20، عالم المعرفة، العدد:5، الكويت 1978.

(3) هل هي بداية النهاية لأمنا الأرض، للدكتور محمد الرميحي، ص:35، مجلة العربي، العدد:332، الكويت، يوليو 1986.

(4) مشكلات الحضارة، للدكتور أحمد أبو زيد، ص:5، عالم الفكر، ج2، العدد:3، 1971.

(5) المنهج النبوي والتغيير الحضاري، لبرغوث عبد العزيز مبارك، ص:81-82، كتاب الأمة، العدد:43، قطر 1995.

(6) البيئة ومشكلاتها، لرشيد الحمد، ومحمد سعيد صباريني، ص:139-140، عالم المعرفة، العدد:22، الكويت 1979.

(7)   الدين والحضارة، للدكتور محمود حمدي زقزوق، ص:106-107، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر 1996.