الإنسانية في أسمى درجاتها

لقد امتن الله -سبحانه وتعالى- على البرية بالخلق والإيجاد، ووضع لهم من نعمه السابغة ما يحتاجون إليه إلى يوم المعاد، فمهد لهم الأرض ظاهرًا وباطنًا، وجعلها تحت غطاء السموات، وواصل بين السماء والأرض في المبنى والمعنى تكريمًا للإنسان وجعل من عباده رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وبدأ ركب الرسالات من أول مخلوق من البشر وهو أبونا آدم – عليه السلام –إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد رحمة العالمين.

فهذا التكريم لبني آدم جاء من الله الكريم، لأنه جعل منهم من اصطفاهم لرسالاته، وجعل كل رسول في زمانه ومكانه ليعرف الإنسان بخالقه، فإذا أذعن لذلك علمه بوحي ربه ما وجب عليه نحو بارئه، وبذلك تتم له سعادة الأبد في الأولى والآخرة.

فهذا الإنسان المكرم من خالقه، فيه روح تحركه في كل لحظات حياته، فإذا فارقته ختمت حياته، وذهبت من حيث جاءت، وصار الجسد إلى التراب. وهذه الروح علمها بما هي عليه عند باريها –جل وعلا– فهي سر من أسرار الله في الأحياء كلها، ليعلم العباد علم اليقين أن هذه الروح التي بها يتحركون لا يدركونها بعقولهم، وليست مما يشاهد حتى نراها بأبصارنا، ولكنا نستشعرها في حياتنا، فإذا ما رأينا الجسد يتهاوى، ونبض القلب يخف حتى يتوقف، فقد خرجت الروح تاركة الجسد إلى التراب.

فهذه الروح التي عرفناها إذا رست بالجسد صار حيًّا يعيش على أرض الله –جل جلاله– وتحت سمائه، وينعم بحياته في آلاء مولاه حتى يأتيه اليقين، لذا يجب على المسلم أن ينظر إلى هذا الجسد الذي به تكون الحركة والسكون في هذا الكون الفسيح.

فهذه ثلاثة: الروح، الجسد، العقل؛ لا غنى للإنسان بأحدهما دون الأخرين.

فللروح حقوق علينا ولكن مع مراعاة حقوق الجسد وإعمال العقل، وكل هذا في حاجة إلى رسالات من الله الخالق، لبيان الصراط المستقيم، الذي عليه يسير العبد في الحياة، بما يرضي مولاه.

أما العصاة الذين عرفوا من الرسول الأمين هذا الدين، ولم يؤمنوا مع سطوع البرهان فقد خسروا الدنيا والآخرة، ففي دنياهم يأكلون كما تأكل الأنعام، ويتخبطون في الحياة كما يعيش صاحب البصر في الظلام، وفي الأخرة مثواهم النار وبئس القرار، وذلك أنه جاءهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم– وقام بالبيان، ولهم عقولهم التي لو أعملوها مع الصفا لآمنوا، ولكنهم ألفوا عقولهم، وعاشوا على سنة آبائهم وساروا في الحياة على أهوائهم.

الروح – الجسد – العقل:

تحيا الروح بالأخلاق العالية، ويعيش الجسد بالطعام والشراب ومطالبه الفانية، ويتجلى العقل بنور العلم الذي يأتيه من الخالق الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فإذا فسدت الأخلاق فقد ضاعت الروح وتعب البدن، وخبا نور العلو أو أنطفأ، وصار الإنسان كالحيوان الذي لاهم له إلا المتاع لجسده وإرضاء شهواته، فسادت المعارك بين الأحياء، وأنواع المفاسد في المجتمعات، وصارت الحياة ظلام في ظلام، ولاقيمة لحياة بهذا السبيل.

فالأخلاق هي ميزان حياة الفرد والجماعة، والأسرة والمجتمع، والأمة كلها ميزانها أخلاقها، وبهذه الأخلاق التي تبنى بها الأمم جاءت الرسالات من لدن أبينا آدم عليه السلام إلى خاتم المرسلين والنبين سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.

ولو نظرت إلى رسالة سيدنا ومولانا محمد الرحمة المهداة لوجدتها تبني الإنسان على الأخلاق الكريمة والخلال المستقيمة، بحيث يرى صلاحه فيها، من بداية بذرته إلى إخراج ثمرته وحتى نهايته، ويكون فلاحه في دنياه عليها، وتكريمه في أخراه بها.

ولذا نلاحظ أن رسولنا –صلوات الله وسلامه عليه– كان يغرس هذه الأخلاق في الإنسان في جميع أطوار حياته، طفلاً وشابًا وشيخًا بوحي مولاه، وبيانه الساحر وبلاغته الآخذة بالقلوب.

وإذا كانت الحكمة تقول “وبضدها تتميز الأشياء”، فعلينا أن نلاحظ في المجتمع هؤلاء الذين فسدت أخلاقهم، بسبب انعدام التربية الأخلاقية في بداية أمرهم، وهم في محيط أسرهم، فخرجوا من باب دارهم إلى الشوارع تتخطفهم شياطين الإنس والجان، لتأخذ بألبابهم إلى أهوائهم، فتراهم في زمن قصير يهوون في مستنقع المفسدين، ولا ترى فيهم خيرًا لأنفسهم فكيف بالمحيطين بهم في حياتهم!؟

لم يكتب البقاء لأي مجتمع ظهر فيه الفساد على مدى التاريخ، ولا أعلم إن كان في هذا استثناء أم لا، لكن لا جرم أن الأمم التي حافظت على وجودها مدة طويلة دون أن يجافيها التاريخ كانت تحترم القيم الأخلاقية(1).

إذًا جاءت الرسالات بفضل الله –جل وعلا- لإعطاء الإنسان حظه في الحياة السعيدة، وإنذاره بالخسران إذا خالف الخالق الذي أنعم عليه بالخلق والآلاء، وأرسل إليه رسوله لتخلق بأخلاق الرسول الأسوة التي يرضى عنها مولاه، الذي أرسله وتولاه، وهدى به عباده إلى نيل الرحمات في الأولى والآخرة، لذا كانت الأخلاق هي ميدان حياة النبين والمرسلين ، والصالحين إلى يوم الدين

الهامش:

(1) ينظر كتاب “من البذرة إلى الثمرة” تربية الأبناء وبناء شخصية متكاملة، للأستاذ المفكر الإسلامي المعاصر: محمد فتح الله كولن، ط دار النيل الأولى، القاهرة 2015م ترجمة د.عبد الله محمد عنتر. ص21.