الأمم بين التقوى والتكذيب وإنما الأمم الأخلاقُ ما بَقِيَت

وإنما الأمم الأخلاقُ ما بَقِيَت

فإن همو ذهبت أخلاقُهم ذهبوا

هذا البيت لـ”أحمد شوقي” -رحمه الله- لا يمثِّل حكمة تسير بها الركبان ويتغنى بها الشيوخ والولدان وحسب، بل هو خلاصة لسنّة كونية من سُنن التعاقب الحضاري على سيادة هذه الأرض، أو كما يسميه الفلاسفة المعاصرون “تفسير التاريخ”. فأحمد شوقي بهذا البيت يلخص التفسير الأخلاقي لبقاء الحضارات وانحسارها.

فهو يرى أن الأمة -بالمفهوم الأعم لها- تبقى ما بقيت أخلاقها، وتذهب حين تذهب هذه الأخلاق، وهو رأي صحيح في فهم التاريخ يصدقه القرآن الكريم في أكثر من آية من كتاب الله عز وجل، الذي يعبِّر عن الالتزام بالأخلاق بتعبيرات أدق وأكثر نفعًا للإنسان ومنها مصطلح التقوى، ويعبّر عن الانحدار الأخلاقي بمصطلح أوسع وهو التكذيب، فيقول سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(الأعراف:96)؛ فذهاب الأمم هو ما تعبِّر عنه الآية بـ”الأخذ”، وتعبِّر عنه الآية بعدها بالإصابة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ)(الأعراف:100).

وتعبِّر آيات أخرى عن الأخلاق بالصلاح والإصلاح، وتعبّر عن ذهاب الأخلاق بالفساد والإفساد والظلم: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)(هود:116-117)؛ فذهاب القرون الخالية هو بسبب استمرائهم للفساد وعدم نهيهم عنه، وأنهم لم يبق لهم أثر بسبب ذلك الظلم الذي ساقهم إليه التمادي في اتباع سُبُل الإتراف، وأن هلاك القرى لا يمكن أن يكون مع الإصلاح. وهنا نجد التعبير بـ”القُرى” بدلاً من التعبير بـ”الأمم” أو “القرون” مع أن سياق الحديث عنهما؛ لأن الأصل في مدلول الأمة أو القرن أوسع من مدلول القرية، مع أن القرية قد تكون أمة، لكن ما يقع في الذهن مباشرة من الدلالة المرتبطة بالأمة أوسع بكثير مما يقع في الذهن مرتبطًا بكلمة “قرية”، ولعل ذلك -والله أعلم- مراعاة لما يسميه الأصوليون مفهوم الأولى، فإذا كان الإصلاح يدفع الله به الإهلاك عن أهل القرى والإفساد يُوقِعُهم فيه، فمن باب أولى أن تسري السنّة نفسُها في الأمة الأعظم في مدلولها من حيث العدد والمكانة.

وآيات أُخَر تعبِّر عن زوال الأخلاق بالفسوق، وتُرتِّب عليه النتيجة نفسها وهي الإهلاك: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)(الإسراء:16).

وهذه الآية تنقلنا -بشكل مباشر- من الحديث عن السنّة الكونية، أو ما يسميه الفلاسفة المعاصرون “تفسير التاريخ”، إلى الحديث عن الأسباب المباشرة التي تكون عادةً وراء نقلة المجتمع حسب التعبير المعاصر، أو الأمة والقرية حسب التعبير القرآني، من مُعْتنِقة للأخلاق عاملةٍ بها إلى كافرةٍ بالأخلاق متخليةٍ عنها.

فهذه الآية تشير إلى أحد الأسباب في هذا الانتقال، وهو الإتراف المؤدي إلى الإلقاء جانبًا بالأخلاق ومقتضياتها، والمراد بـ”المُتْرفين”: المُنَعَّمون، وذلك لأن فيض النعمة على العبد كثيرًا ما يحمله على التساهل في أمر الله تعالى ونهيه، ويصيبه بشيء من الكبر الحامل على قلة الخشية من الله وضعف الورع عن محرماته.. كما قال سبحانه وتعالى: (كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق:6-7). كما أن المُنَعَّمين هم -غالبًا- المتبوعون للناس في أخلاقهم وعوائدهم، فإذا فسدوا أو فسقوا؛ حملوا المجتمعات على ذلك دون أمر منهم، ولكن بالانقياد الطَّبْعِي للناس إلى ما عليه كبراؤهم. وهذا المعنى -أي تعليق الإطلالة بالترف- ليس عابرًا في القرآن، بل مؤكد في عدة مواضع منها الآية المتقدمة في سورة هود: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)، وقوله تعالى: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ)(الأنبياء:12-13)، وقوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(المؤمنون:33). فالقرآن يؤكد -غير مرة- أن الترف سبب أغلبي لانحراف المجتمعات الأخلاقي.

ولذلك تأتي آيات كثيرة في القرآن الكريم تعالج ما يمكن أن نسميه “السلوكَ الاقتصادي للعبد المسلم”. فالله تعالى لا ينهى عن طلب المال، كما لا ينهى عن الغنى ولو كان عظيمًا جدًّا.. فلا يوجد آية في كتاب الله تعالى ولا حديث نبوي ولا أثر يحدِّد سقفًا أعلى لما ينبغي أن يتوقف عنده الإنسان في حجم ما يملك من المال، بل يصفه الله سبحانه بأنه زينة الحياة الدنيا، كما أن الأبناء زينة لها أيضًا، لكنه يغرس في قلب العبد أنها وإن كانت من الزينة المباحة إلا أن ذكر الله تعالى وسائر أعمال الخير خيرٌ منها. وكذلك يغرس مفهوم كون هذه الأموال كما أنها زينة فهي فتنة، أي مهيأة لصرف صاحبها -إن لم يحذرها- عن طريق الحق، فقال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً)(الكهف:46)، (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(التغابن:15).

هذا هو التهيؤ المعنوي لما ينبغي أن يكون عليه مفهوم المال في نفس العبد حتى لا يصل للترف المفضي إلى الاستهانة بالأخلاق ومن ثم هلاك الأمة. وأيضًا احتوى القرآن على تحديد آلية دقيقة للتعامل مع المال، فيجب أن يتولى العبد مسؤوليته العظيمة في الإنفاق على من سوى نفسه، وفي الوقت نفسه لا يتجاوز في إنفاقه حدًّا يوصله إلى فقدان ماله، أو الإساءة لسلوك المجمع في التعامل مع المال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)(الإسراء:26)، كما أوضحت هذه الآليةَ صورةٌ بديعة لا نظير لها في الرسم البلاغي: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)(الإسراء:29).

إذن فالمحافظة على أخلاق الأمة هي محافظة على بقائها ونجاتها من عقوبة الأخذ، لكن وجود أمم قد أضاعت أخلاقها دون أن تصاب بعقوبة الأخذ هذه قد يُحدِث فتنة لدى النفوس الضعيفة فتحتج بمثل هذه الأمم على التهوين من خطورة التهاون مع ما يطلَق عليه زورًا الانفتاح الأخلاقي.. لكن الأمر قد حسمه القرآن الكريم حين قال تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)(آل عمران:178). فالسنّة الكونية قد تتأخر لكنها لا تتخلف، لذلك حذَّر الله من الاغترار بتأخر السنة الكونية في الإهلاك بزوال الأخلاق فقال: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ)(الأنبياء:44). فسنة الله لا تتبدل: (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(الأحزاب:62).

 

(*) أستاذ في أصول الفقه، جامعة أم القرى / السعودية.