اختلاف الخلقة واختلاف الوظيفة

يتضح للمتأمل الواعي أن اختلاف الخِلقة تابع لاختلاف الوظيفة، وأن تمايز الخواص مُؤذِن بتمايز الاختصاص. فاختلاف طبيعة الخلقة تابع لاختلاف طبيعة الوظيفة، فالوظيفة -كما هو ثابت في علم الأحياء- هي التي تنشئ العضو المناسب؛ فبسبب حاجة الكائن الحي إلى وظيفة الشم، خُلق له العضو الذي هو “الأنف”. ولحاجة الكائن الحي أيضًا إلى الرؤية والإبصار، احتجنا إلى عضو العين. ولو افترضنا أن عضوًا ما تعطلت وظيفته، فمعنى ذلك أن هذا العضو المتعطل قد انتهى وجوده وتوقف دوره.

فالعلاقة بين الوظيفة والخِلْقة علاقة تلازم، فالكيفية التي خُلق عليها الخلق -إنسانًا كان أو حيوانًا، أو صنفًا معينًا من الإنسان، أو صنفًا من الحيوان أو النبات أو غير ذلك- إنما كانت تبعًا للوظيفة التي رُسمت لذلك الكائن الذي لها خُلِق.

فحين قال فرعون لموسى عليه السلام: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(طه:49-50)، وهذه إضافة في غاية الأهمية، حيث تبين أن الله الخالق العظيم أعطى كيفية معينة لكل ما خلقه من المخلوقات، فأعطى لكل شيء خَلْقه المناسب له ثم هدى.

فقه التأمل في الكون

وكذلك الشأن بين أمرنا بالتسبيح في قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)(الأعلى:1-2) بحسب نوعية تلك الخلقة، وبين قوله تعالى: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)(الأعلى:3)، وبناء على ذلك التقدير كانت الهداية لذلك المخلوق في اتجاه ما قُدِّر له تبعًا للخلقة التي خُلق عليها وسُوِّي عليها.

وهذه نقطة في غاية الأهمية لفقه هذا الكون جملةً، وفقه ما هو قائم عليه، وما هو قائم به، وفقه ما يتجه إليه، وكيف ينبغي أن يدبَّر أمره وأمر من فيه وما فيه، فذلك تابع لهذا التمايز في الخلقة.

والأصل أن العبث منفي، لأن الله تعالى منـزّه في هذا الكون عن أن يخلق شيئًا عبثًا. هذه الحقيقة يفقهها الربانيون أولو الألباب الذين تأملوا بالبصيرة النورانية في آيات الاختلاف والتمايز، فهُدوا لأن يقولوا: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ)(آل عمران:191)، أي كل شيء خُلق لوظيفة وحكمة. أما الذين لم يُرزقوا الفقه النابع من الإيمان بحكمة الاختلاف التكاملي، فيظنون في الاختلاف والتمايز ظن الباطل المؤدي للتصارع والإفساد، وتجريد الحياة من السمو والتكامل الزكي المبارك: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)(ص:27). والله يرشدنا إلى هذا الأصل الكبير في آيات كثيرة، وفي سور كثيرة، وإن الثنائيات التي هي بمثابة المثاني، كثيرة في القرآن وبالأخص في قسم المفَصّل، والمفَصّل -على الأرجح- هو من بداية سورة “ق” إلى آخر القرآن الكريم.

المثاني والقرآن العظيم

كلما اتجهنا إلى نهاية المصحف الكريم، وجدنا هذه المثاني تظهر بجلاء وقوة، ومن ذلك قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)(الليل:1-4). الزمن هو الزمن، وفي الزمن نهار، وفي الزمن ليل: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى*، ولليل وظيفة لتسكنوا فيه، وللنهار وظيفة تبعًا لطبيعته ولما خُلق له كذلك، رغم أنهما معًا من جنس واحد هو جنس الزمن، فلليل وظيفة لتسكنوا فيه، وللنهار وظيفة لتبتغوا من فضل الله فيه، والوظيفة نفسها لها ظروف تحفُّ بها. فالكون كله يسكن في الليل في غياب ضوء الشمس، والكون كله يتحرك في وجود الضوء في النهار وإن لم نتحرك، ولا بد أن نتحرك.

فهذا النظام العام أسَّس به القرآن لحقيقة خَلقية قادمة بعدُ: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى)، فخلق الذكر كخلق الليل أو النهار، وخلق الأنثى كخلق الليل أو النهار، فهذا التمايز موجود رغم أن الجنس واحد وهو هذا الإنسان، وهذا التمايز، نظرًا لطبيعة اختلاف الدور والوظيفة أيضًا؛ لأن ما خُلق له الذكر مخالف لما خُلقت له الأنثى، وما خُلق له الليل مخالف لما خُلق له النهار في الآية، ومثلها: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا)(الشمس:1-2)، مثل ذلك في الأرض والسماء.

إن الثنائيات المذكورة في القرآن العظيم، تتجه بصفة عامة في هذه الوجهة، لتبين أن التمايز في الكائنات، والاختلاف الذي قد يُرى إلى حد التضادّ، هو اختلاف التكامل الذي سببه اختلاف الوظائف -كما تقدم- فلا تتضاد ولا تتصارع، لكن تتكامل في وحدة وتنوع داخل منظومة الحياة، فهو اختلاف داخل الائتلاف.والسعي شتى: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى((الليل:3-4)؛ يتجه اتجاهات مختلفة.

فهذا الأصل يؤسس لحقيقة غاية في الأهمية يصرح بها القرآن بدقة ووضوح حين يقول عن الذَكر والأنثى وعن الرجال والنساء: (وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)(النساء:32)؛ فالنساء مفضَّلات على الرجال في جوانب، ولهن الخصوصية بحسب الخِلْقة، هن مفضلات مرشحات في جوانب بعينها لا يحسنها الرجال ولا يطيقونها حتى ولو أرادوا. والرجال مفضَّلون في جوانب أيضًا يحسنونها ويطيقونها، ولا تطيقها النساء بحسب أصل النشأة والخلقة، فلكلٍّ منهما خِلْقة وعمل خُلق من أجله.

فلو فقهنا هذا الأمر، لشعر كل واحد في موقعه بالاعتزاز في كونه خُلق على هذه الهيئة التي هو عليها. فالأصل هو الرضا عن الخلقة وعن الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان؛ لأن تلك الفطرة تابعة لوظيفة لا يمكن أن تؤديها خلقة أخرى وفطرة أخرى. فلنفقه هذا، فهو من أسس هذه النظرة الكلية الشاملة للمسألة الإنسانية بصفة عامة في هذا الكتاب.

(*) الأمين العام لمؤسسة البحوث والدرسات العلمية (مبدع) / المغرب.