أنا كُلْية عبد الله

عزيزي عبد الله.. أنا “الكلية” عضو من الأعضاء الضرورية لحياتك، أعيش في منطقة الخصر من جسمك، مُحاطة بحماية جيدة، ومَرْبوطة بشكل متينٍ إلى الظهر عن يمين عمودك الفقري ويساره.

الكُلَى وإزالة السموم

أنا أهم جهاز أساسي للتصفية والتفريغ في نظام المنشآت الصحية التي تعيش في المعمل الذي تدعوه “جسمًا”. فمن خلال عمل صديقي “القلب” ينتقل الغذاء والأوكسجين إلى جميع أعضائك، ومن الطاقة التي تحصل عليها من هذا الغذاء تُسدُّ الحاجة الصغرى التي تحتاجها جميع أعضائك وأعمالك اليومية.
فهل فكرتَ يومًا أن لهذه النشاطات الرائعة التي تجري في جسمك من أجل الحصول على الطاقة؛ فضلات أو فحمًا ناجمًا عن حرق هذا الحجم من الغذاء؟! فلذلك تحتاج إلى تنظيف جسمك وطرح الفضلات المتجمعة فيها، تمامًا مثل احتياجك إلى طرح الفحم الناجم في موقدك الذي تستعمله في التدفئة عن طريق المدخنة، واحتياجك إلى تنظيفه من بقايا الحرق بين الحين والحين، وإلا فلن تستطيع استخدام موقد ممتلئ بالرماد. فبينما تنْفُثُ غاز ثاني أكسيد الكربون الناجم عن حرق الغذاء الذي نقلته إلى جسمك عن طريق رئتيك، تستطيع أن تطرح من جسمك الفضلات النتروجينية (الأزوتية) السامة عندما تتجاوز حدًّا معينًا من خلال العمل الصامت الذي تقوم به أجهزة الفلترة التي أملكها. فينبغي أن تعرف أني جهاز ينقذك من الموت من خلال تصفية دمك من المواد السامة.
ولا أكتفي بطرح الفضلات، بل أعمل أيضًا في الإشراف على المستوى الدقيق للماء والسكر والأحماض الأمينية (الأمينوسيت) والأملاح المتعددة الضرورية في تأمين التوازن الداخلي لجسمك.. أنا باختصار، مختبر صغير ولكنه “حياتي مهم” كالكبد الذي يعتبر مختبرًا كبيرًا.

أنشطة الكيمياء الحيوية في الجسم

يعتبر التوازن “الحمضي-القلوي” في الدم، ومستوى الماء في الجسم، وكميات الأملاح المختلفة، مقادير مهمة تتعلق بنشاط الجسم كله، وعند وقوع أي خلل فيها، يبدأ الاضطراب بالظهور في أقسام مختلفة من محرك الجسم. ولذلك أعمل دائمًا ودون أن تدري، على معايرة مستوى السوائل والأملاح المتعددة، وفق البرنامج الذي وضعه ربُّنا الذي خلقني بشكل حسّاس دقيق وأودعني في جسمك. فعمل أنشطة الكيمياء الحيوية في جسمك يتطلب وسطًا مائعًا، علاوةً على أن أعمالاً أخرى كتقلص العضلات وقدرة الأعصاب في التنبيه الكهربائي، يعتمد على ملْعقةِ شاي صغيرة -ربما لا تلقي لها بالاً- من الملح.
وآثار البقع البيضاء التي يخلفها جفاف العَرَق في قميصك في يوم حارٍّ، أو عقب جَرْي طويلٍ؛ ما هي إلا الأملاح التي فقدْتَها من جسمك، والأملاح التي تُطرَح مع الأغذية عندما تكون مصابًا بالإسهال سببٌ آخر لفقدان الأملاح من جسمك، ويكون هذا الفقدان للأملاح في حالة الإسهال خطيرًا، لا سيما عند الأطفال.

الكُلَى وتبادل السوائل بين الأنسجة والدماء

إن الفروق في الكثافة والتركيز بين البروتينات والماء في توازنٍ معينٍ بينهما، يشكل أساسًا لتبادلِ الموادّ بين السوائل الموجودة في الأنسجة والدماء، فإذا ارتفع منسوب المياه، تنتفخ الأنسجة في جسمك. ويمكنك تمييز ذلك من خلال الضغط بأطراف أصابعك على القسم السفلي من رجلك عند قصبة الساق، إذ تتشكل حفرة عند الضغط بها، فإن لم تعد الحفرة للامتلاء بسرعة، فهذا يعني أن هناك مشكلةً في مستوى البروتينات والسوائل.

من وظائف الكُلَى مراقبة الدم

عزيزي عبد الله.. لعلك بدأت تشعر بالثقل في رأسك، لكني لم أنته بعدُ من تعداد وظائفي، وربما تظن أني أبالغ كثيرًا إذا ذكرتها كلَّها، فلابد لي أن أحدثك على الأقل عن وظيفةٍ أخرى، حيث يظن الناس بسبب جهلهم بوظيفتي هذه، بأني عضوٌ لطرح الفضلات فقط، مع أن الله حمّلني وظيفةً لا يمكن أن تتخيَّلَها.
تُرى ما هي هذه الوظيفة؟! إنها وظيفة مراقبة الدم! تَمَلَّكتك الحيرةُ أليس كذلك؟! نعم، فأنا باعتباري كليةً، أفرِز هرمونًا لتنبيه مصانع الدم في عظامك. وهذا الهرمون الذي يدعى “إريثروبويتين”، ينبه مراكز إنتاج الدم فتقوم بإنتاج خلايا الدم. وأنا مضطرة إلى التزام التوازن الدقيق في إنتاج هذا الهرمون إلى درجة تفوق الخيال.. فأنا يقِظة دومًا، وإذا فقدتَ -لسببٍ ما- دَمًا، فإنه يتوجب عليَّ أن أزيد من إنتاج هذا الهرمون لأُسرّع به إنتاج خلايا الدم، وإذا أخذتَ دَمًا من الخارج عن طريق النقلِ، فإني أتوقف مؤقتًا عن إنتاج الهرمون ليتوقف إنتاج الدم، حتى إذا بدأت كريَّات الحمر بالتناقص بسبب شيخوخة خلايا الدم وموتها، فإني أعود من جديد إلى إنتاج هذا الهرمون.

بنية الكُلَى

وهكذا يا عبد الله، أكون قد حدثتك عن بعض وظائفي الأساسية فقط، غير أني لم أحدثك عن الطريقة التي أؤدي بها هذه الأعمال، ولا عن صنعتي الفنية الرائعة.. فاسمح لي أن أبيِّن لك بنائي المعجز الخارق.. طولي في المتوسط (12سم)، وعرضي (7سم)، وسمكي (2.5سم)، ووزني (145ج) على شكل حبة الفاصوليا، وفي النساء أكون أخف بمقدار (10ج). جسمي طريٌّ ولكني محاط بغشاء حافظ متين.
وكما أن الجيش يتكون من آلاف الجنود يجتمعون للتدريب من أجل هدف مشترك، فإني في الحقيقة مُرَكّبٌ يتشكل من آلاف الجنود مثل هذا الجيش ولست جهازًا بسيطًا، وجنودي هؤلاء الذين يقومون بوظيفتي، هم وحدات الكُلْيون (النيفرون)، وهي وحداتي الأساسية التي تقوم بالعمل، وما أنا سوى كتلة ظهرت في الميدان من تجمعها، ومن تجمع مليونٍ واحدٍ من وحدات “الكليون” العاملة تتكون الكلية.. وباعتبار أنك تملك كليتين فهذا يعني وجود مليونين من وحدات “الكليون” تؤدي الوظائف التي سبق ذكرها وفق الأوامر التي تتلقاها.

الكُلْيون.. وصفه وعمله

يمكنني أن أصف لك “الكُلْيون” بأنه عبارة عن قناة دقيقة ذي نهاية مغلقة بطول يتراوح بين (3-5 سم). يتسع هذا الطرف المغلق من قسمه الأمامي ليأخذ شكل كبسولة مؤلفة من طبقتين تدعى “محفظة بومان”، تدخل فيها الأوعية الدموية الشعرية التي تدعى “الكُبَيْبات” (Glomerulus)، وهذه الشبكة من الأوعية الدموية تتشكل من تفرع وريدي الكلوي الذي يحمل إليَّ الدم إلى فروع كثيرة فتمد لكل كليونٍ ذراعًا.. ولأن ضغط الدم في الوعاء الشعري أعلى من ضغط السائل في محفظة بومان، تندفع المواد الضارة في الدم إلى المحفظة، وتتقدم على طول قُنَيَّتِها.

البول الحقيقي.. حجمه ومقداره

وبينما تجتاز (1.2 لتر) في الدقيقة و(1800 لتر) في اليوم من الدم من قُنَيّاتي التي تدعى “كليونات”، تنتقل المواد السامة مع الماء إلى هذه القنيات. وبينما يجتاز هذا الحجم الكبير للدم -الذي يبلغ 400 ضعف من الحجم الكلي الموجود في جسمك- ليعود من جديد إلى الأوردة، يترك في قنياتي (180 لترًا) من السوائل، وكان ينتظر أن تطرح (180 لترًا) من البول في اليوم، لأن هذه الكمية هي التي تتصفى من الدم وتنتقل إلى قنياتي كل يوم.
فهل كنت تستطيع أن تشرب الماء وتتناول الملح لو أنك طرحت هذا المقدار من البول كل يوم؟ لذلك فإن ربّنا الذي خلقني بحكمته وقدرته، قد أشفق عليك وزرع فيَّ أجهزة امتصاص تقوم بامتصاص (178.5 لتر، من أصل 180 لتر)، فيتكاثف البول وعندها يمكن أن تطرح جميع الفضلات الآزوتية (النتروجينية) بمقدارٍ قليلٍ من الماء. وهكذا أعيد إليك المواد المفيدة بطرحي (1.5 لتر) من البول فقط.
والمكان الذي يجري فيه عمل الامتصاص هو التواء على شكل “u” في وسط القنيات يدعى “مقبض هنلي”. ينتشر حول مقبض هنلي شبكة واسعة من الأوعية الدموية تعاد من خلالها المواد الممتصة إلى الدم، ويتم امتصاص المواد السائلة من الأوعية الدموية هذه من جديد في قناة أكبر (هرم كلوي) تحوي الكثير من الكليونات، ثم يتم تنقيطها في حوض الكلية (ويدعى: الحويضة، وتتشكل من فراغ واسع وسط الكلية) فيمتلئ، ثم تنتقل هذه المواد السائلة عبر القناة البولية إلى المثانة (الكيس البولي). وفي المثانة عندما تبلغ كمية البول مستوى معينًا وتضغط على الجدران، يتم الإحساس بالحاجة إلى التبول، وبارتخاء العضلة المقلِّصة في الطرف السفلي للمثانة يطرح البول إلى الخارج.

لا يستطيع معظم الناس تقدير قيمة أعضائهم

عزيز عبد الله.. باستثناء أصحاب العلم العميق، لا يستطيع معظم الناس تقدير قيمة أعضائهم قبل أن يمرضوا، ولذلك ينبغي عليك أن تقرأ كثيرًا، وتزور المستشفيات بين الحين والحين، والمقابر كذلك. زُرْ مريضًا -مثلاً- في المستشفى ينام في قسم أمراض الكُلَى، أو مريضًا يتابع المستشفى كل أسبوعٍ من أجل غسيل الكُلَى واسأله عن أحواله، عندها تعرف قيمة كليتيك بشكل أفضل. وإياك أن تنسى أولئك المرضى الذين يضطرون إلى تنقية دمائهم كلها من خلال تمريرها من أجهزة غسيل الكُلَى، بسبب فشلها المزمن وعدم تمكّنها من القيام بوظيفتها، ويستيقظون كل صباح وينتظرون التليفون في لهفة “تُرى هل وُجدتْ كليةٌ مناسبة تصلح لنقلها إليَّ؟”.

أسباب الفشل الكلوي

عندما ذكرتُ الكُلَى المزمنة، تذكرتُ يا عبد الله أسبابًا كثيرة يمكنها أن تفتح الطريق إلى تخريبي. فالإنتانات البولية طويلة الأمد، وبعض الأدوية التي تُستخدم لفترة طويلة، وبعض المواد كالأسيتون، وغليكول الإيتيلين، ورابع كلوريد الكربون، والزئبق والرصاص، واليورانيوم، والفقدان الكثير للدم، وارتفاع ضغط الدم، والحروق الشديدة، وعدم ملائمة الدم المنقول، يمكن أن يكون كل واحدٍ منها سببًا لفسادٍ لا يمكن معه إصلاحي. ربما يمكن لي أن أتماثل للشفاء في بعض حالات الفشل الكلوي والتي تحدث فجأة، عن طريق الأدوية، ولكنه بالإهمال يمكن أن أدخل بسهولة في حالة الفشل الكلوي المزمن.
توجد حالة أخرى تسبّب لي المتاعب، هي تكوُّن الحصى التي تسبب لي آلامًا شديدةً في داخلي نتيجة الاضطراب في عمليات الاستقلاب المختلفة. وعلى العموم، فإنه بسبب نقصان مستوى السوائل في الجسم أو تكاثف الأملاح عند اضطراب التوازن الحساس بينهما، تتجمع المواد المنحلة في السوائل مشكلة الحصى. وبينما تعرقل هذه الحصى جريان البول يمكنها أيضًا أن تكون سببًا لإنتاناتٍ حادة.

كيف تقلل من مخاطر تشكل الحصى؟

وحتى تتجنب هذه الحصى يمكنك أن تكثر من شرب الماء، فتعيقَ تراكم الأملاح، والأهم من ذلك أن تتجنب حبس البول إلى درجة الانزعاج، وحاول دومًا أن تتبول قاعدًا لا قائمًا، فتؤمن بذلك فراغ المثانة بشكل جيّد، وتقلل من مخاطر تشكل الحصى.
يمكنني العمل على مساعدتك في البقاء على قيد الحياة حتى أفقد 90% من طاقتي. فعندما يتوقف جزء كبير من أجزائي عن العمل، يزيد القسم السليم المتبقي من نشاطه ليسد الفجوة الحاصلة، وفي حالة استئصال أختي أحمل أعباءها بنفسي دون شكوى، إلا أنني أتضخم قليلاً وأزيد من سرعتي. وتركيب البول الذي أنتجه يتوقف على ما هو موجود في جسمك، كتركيب العسل الذي ينتجه النحل يتوقف على أنواع رحيق الزهور المختلفة التي يجمعها، أو كالجرة يرشح منها إلى الخارج ما تحويه بداخلها.
لذلك فإن تركيب البول الذي أنتجه مهم جدًّا في تشخيص أي مرض، لأنها تُعبِّر عن أمور كثيرة تخص جسمك. فأنا -على سبيل المثال- لا أضع في تركيب البول الذي أنتجه مواد قيِّمة كالجليكوز والبروتين، بل أعيده بالامتصاص من جديد إلى الدم، ولكن عند مرضى السكري يظهر الجليكوز في البول، لأني لا أستطيع القيام بهذا العمل عندهم كما ينبغي.
كما أنني لا أتدخل في بعض المواد طالما هي ضمن حدود معينة لم تتجاوزها، لأن الدم يحتاج إلى مقادير معينة منها، فإذا بدأت تتجاوز حدودها المقدرة فإني أعمل فورًا على تصفية هذا الفائض منها، وأضيفها إلى البول، كالبولة (يوريا) وحمض اليوريك، فلو زادت هاتان المادتان -لا قدر الله- ولم أستطع أن أصفّي هذه الزيادة وأطرحها، فستكون في مصيبة، أما أدويتهما فإني أطرحهما فورًا مهما كان المقدار ضئيلاً، لأنهما غريبان عني.

وصايا للحفاظ على سلامة الكُلَى

لا زلت شابًّا يا عبد الله.. ولكن وصيتي لك أن تحفظ خاصرتيك من البرد، وخاصة في الشتاء، لُفّ هذه المنطقة واحفظها جيدًا، وينبغي أن تعلم أنك إن لم تلتزم بوصيتي، وبردتْ خاصِرتاك ومرضتُ، أسبب لك مصائب كثيرة.
ووصيتي الأخيرة لك؛ غدًا عندما تتزوج ويصبح لك أولاد، فانتبه إلى البنات وأوْصِ زوجتك أن تعلّم ابنتكم جيدًا كيف تطهّر نفسها بعد البراز. تريد أن تعرف السبب أليس كذلك؟
إن المسالك البولية للأطفال الذكور، تكون مخفية ومحفوظة أكثر منها عند البنات ولا تلتقط الالتهابات بسهولة، لكن المسالك البولية عند البنات باعتبار بنيتها مفتوحة على الالتهابات، فينبغي عند الحدث الأكبر (البول والغائط) أن يجري التطهير عند البنات من الأمام إلى الخلف، لا من الخلف إلى الأمام، وبذلك تكون المسالك البولية محميَّةً من التلوث بالجراثيم.
عزيزي عبد الله.. كان يمكنني أن أحدثك عن نفسي بأكثر من هذا، غير أن الوقت ضيقٌ، فقدّمتُ لك بعض الصور حتى تعرف من خلالها البدائع الإلهية التي أودعها الله فِيَّ عندما خلقني. أتمنى أن تكون قد علمتَ جيدًا واستقرَّ في عقلك أنه لا يمكن أن يكون صُدْفةً، النشاطُ الذي تقوم به خليةٌ واحدةٌ مني. وأعتقد أنك قد علمتَ أيضًا أن الله عز وجل الذي خلقني في هذا الكمال، لابد أنه يعلم التفاصيل الدقيقة لأعضاء جسمك عضوًا عضوًا، حتى تمكنت من العمل في انسجام تام معها.. ولو لم يكن هذا الانسجام لقمت -ربما- بأنشطة تصطدم مع عمل الكبد أو البنكرياس أو غير ذلك من أعضائك الأخرى.
ها أنا ذا يا عبد الله.. أثرٌ من آثار القدرة الإلهية غير المتناهية، فإياك أن تنسى الشكر لخالقي الذي سخرني من أجل خدمتك.
ــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.