بعض الأفكار الجديدة والمبتكرة التي تجود بها قرائح المفكرين المجددين، تحتلُّ من أرواحنا المكان الأسمى، وتقوم في عقولنا المقام الأرفع، فنهتزُّ لها ونحفل بها، ونبتهج بها ابتهاجنا بالمولود الجديد بعد تعسُّر شديد.
والأستاذ فتح الله كولن -بإجماع الدارسين- رجل التجديد والتحديث الديني على كافة المستويات في هذا العصر، فهو لا يني يتحف قرَّاءَ “حراء” ببوارق فكرية وروحية لم تشهد آفاق الفكر الديني الحديث مثيلاً لها من قبل، وهو يريد بهذا تحريك الساكن العقلي، والهامد الروحي، لاعتقاده بأن هذه الأمة تظلُّ في همود وخمود ما لم تشتعل أرواح أبنائها بنيران الأشواق إلى الله تعالى، وما لم ينزع أفرادها عن عقولهم أنماط التفكير المتسطح الضحل، وتستبدله بالأعماقية النهضوية المغامرة والمقتحمة.
فالأستاذ ينفي أن يكون الخطأ والانحراف عن الله تعالى أمرًا سرمديًّا لا يمكن للإنسان أن يتخطاه، بل المشكلة الأساس هي اكتشاف سبل الوصول إلى الإنسان، واعتماد فطرته السليمة غير الملوّثة في المخاطبة والتبليغ، لكي يساعد نفسه في الانطلاق إلى الأمام دون قيود ومعوقات موروثة تجعله يراوح في مكانه فلا يتقدم بل كثيرًا ما يتأخر.
فالأستاذ يحاول توتير دواخل الإنسان المسترخية والمستنيمة، ويحفز قواه التنشيطية والتفكيرية، فيشعل فتائل إرادة الفهم والإدراك والمبادرة إلى التخيير والتغيير.
فإنسانية الإنسان لا تستقيم ولا تظهر على حقيقتها ما لم يكن وراءها إرادة تحرك فيها عجلة التغيير، والخروج من الساكن المميت إلى الحركي المحيي. وإنه ليسعى جاهدًا لكي يكون المسلم ذا روح انفعالية شديدة الرهافة، بحيث تكون على استعداد دائم للتأثر بالإشارات الكونية والقرآنية، والتلقي عنهما، والانفعال بهما، والتناغم معهما.. فيغدو بذلك مركز إشعاع كوني المركز، ومنار إرشاد إنساني التوجه. وهذه هي المهمة الأساس التي يريد الأستاذ “فتح الله” تذكير المسلم بها، واستنهاضه لها، وحفز إرادته للعمل من أجلها.. فمن غيرها يكون المسلم قد تنكر لمسؤوليته الأخلاقية، وفرَّط في الأمانة التي اؤتمن عليها من قبل خالقه.
والأستاذ “فتح الله” لم يكن في يوم من الأيام صاحب فكر مجرد، ورؤى حافية لا أرجل لها تمشي بها وتشق طريقها بين الناس، بل هو صاحب رؤى، كثيرًا ما تتجسَّم في نماذج بشرية عالية الثقافة، ورفيعة الفهم والإدراك، تستلهم من رؤاه، وتنحت من أفكاره أمثلة منظورة محسوسة، وقائمة بين الناس في أسواقهم ومحالهم ومكاتبهم ومدارسهم، وجامعاتهم، وفي كل مكان يدرج فيه الناس، وتتحرك بهم المعايش والأرزاق.
إن عالم المسلم اليوم عالم منهوك القوى، مشلول الفهم، أعرج الروح، هَشُّ البناء، مهزوز الاعتقاد، يقطنه مسلمون متعبون، منهوكون حائرون ووجلون، فهم في أمسّ الحاجة إلى عقليات جديدة فتية؛ لتخرجهم مما يعانون وتستنهضهم للقيام بواجبهم الديني والأخلاقي، وإلا فمتى كان الضّجِرون من أنفسهم، والهاربون منها، والتائهون عنها، أصحاب قدرة على استصلاح عالم اليوم الذي يشكو الخواء الروحي والانحسار الفكري، والهبوط الإيماني والأخلاقي.
فعلينا أن نقرَّ بأننا نعاني عسرًا عقليًّا، وخلطًا روحيًّا وحضاريًّا، أفسد قدراتنا على التفكير السليم، وشلَّ ضمائرنا عن الإدراك الصحيح. فنحن في حاجة اليوم إلى “الكلمة المبصرة”، تلك الكلمة ذات التوافق الأبيد، والجامع الشديد بين السنن الكونية والقرآنية.. فثمة صلات وعلاقات لانهائية تربطنا بهذا الوجود القائم، ونحن وإيّاه في تعاشق لا ينتهي ولا ينقطع.. فوجودنا يشكّل أعظم أجزاء التوازن الكامن في خفايا الوجود، بحيث إذا ما حان أجل الإنسان وغاب عن هذا العالم، فإن وجود العالم سينتهي معه كذلك.
إن أفكار “كولن” أفراح للعقول، ومواسم أعياد للأرواح، وأَهِلَّة بشرى للصابرين على لأواء العذاب، وأنداء تتنزل بالسواء على القلوب القاحلة، وعلى نيران الجحيم التي تأكل الأرواح وتسوط العقول بشواظ من نار.. إنها تستنبت في أراضي النفوس الجُرد الحقولَ النضرة، والرياض الباسقة.. فأفكاره عالم واسع من الغبطة الفكرية، لا يسعك معها إلا الإطباق عليها بحواسّك الخمس، وبكل قوى مشاعرك ووجدانك، لأنها توفر لنا إحساسًا شديدًا بأننا أصحاب منهج فكري وروحي عظيمي الاتساع، عميقي الأغوار، وأن عوالم ما “بعد الوراء” غدت في متناول أيدينا وقبالة أنظارنا. إنها -أي هذه الأفكار- تسمو بنا إلى عالم مثالي يأخذنا -بقوة- إلى التفكير بأمور عظيمة ذات شأن عظيم، تتعلّق بمآل البشرية وبمصيرها، وتجعلنا ننظر إلى الحياة على أنها الجدُّ فوق كل جدّ، وأنها كفاح ونضال من أجل أن يسود الإيمان والحق والعدل والخير والجمال العالمَ الذي نحن جزء لا يتجزأ منه، وإننا -لا قدّر الله- لنفجع البشرية بأعزّ ما تعتز به وهو “الإيمان”؛ إذا نحن تخلينا عن مهمّتنا، وأسأْنا استخدام ما عندنا من تراث روحي عظيم يسع العالم كله، ليطلق قواه الإيمانية الخفية التي لا زالت حبيسة في فكر البشرية وروحها.
فالتضحية بالنفس في سبيل هذه القيم العالية الشأن، هو أشرف ما دعت إليه السماء أهلَ الأرض. فهذه القيم تظلُّ حية لا تموت، لأنها انعكاس عن جوهر الحقيقة الكبرى التي إليها تعود كل حقائق الوجود، وربما مات وذهب جسم كل حقيقة، ولكنَّ روحها يبقى حيًّا مضيئًا مشعًّا يلفت إليه بشعاعه الأرواح والعقول.. وحينما يغيب روح الإنسان أو يتعامى عن إبصار مثل هذه الإنارات، فإنه يغيب معه الإدراك والفهم، وهذا ما لا يريده الإنسان لنفسه ولا أحدَ يريد له ذلك. فإذا لم يمتلك الروح شيئًا من هذه الإضاءات الجوهرية، فإنه يبقى فاقدًا للحسّ بشرف الجوهر الإنساني الذي ينطوي عليه، وهذا الفقدان هو سبب مأساة الإنسان اليوم.
فالفكر الجديد المتحرك يفصل ما بين ماضي الفكر المتراكم عن مستقبل الفكر اللانهائي. إنه يتقدم بلا هوادة، مخترقًا البعد الزماني، مشكلاً قاعدته الصلبة لِمَن يريد أن يجرب عقله من جديد، ويستهلَّ به عصرًا فكريًّا جديدًا. وإلى هذا المعنى يشير الحديث الشريف عن المجدد الذي يأتي على رأس كل مئة سنة، إنه نوع من التضامنية الفكرية التي تنتظم عالمَ الفكر منذ آدم عليه السلام وإلى أن تقوم الساعة.. إنها قفزات فكرية متعاقبة يحدثها المفكّرون المجدّدون جيلاً بعد جيل.
فالأستاذ “فتح الله” إنما يبني بأفكاره التجديدية هذه، قاعدة انطلاق للمفكّرين المجددين الذين سيأتون من بعده، وذلك ببنائه الجسور القوية بين رجال الأدمغة الكبيرة والأرواح العظيمة، ويمحق الخرافة اللعينة التي تقول: “إن جذور الأمة التاريخية والروحية تشكّل غلاًّ للعقل، وحجْرًا على الفكر، وهذا ما كان يحزنه ويؤرقه”.
(*) كاتب وأديب عراقي.