أشجار تكشف عن هوية قاتل

ثمة عملية حفظ عجيب تسود الكون برمّته. ماهية الإنسان وجوهره محفوظان في خلية منوية، وأدقُّ تفاصيل مزاجه وطبيعته ومستقبله محفوظة في كروموسوماتِهِ. وإذا غيّرتم عدد الكروموسومات في الإنسان، تغيرت ماهيته.

نظام رياضي دقيق

إن جسم الإنسان ومزاجه وعالمه الداخلي، يتشكل وفق هذه الكروموسومات، ولو تحوّلت هذه الكروموسومات من 46 إلى 44 أو 48، لَتحوّل الإنسان مخلوقًا آخر. إن أصغر الكائنات كمثْل الكروموسومات -وإنْ في إطار الأسباب- تتدخل في تحديد صورة الإنسان وماهيته. وهذا يعني أن الله سبحانه، منح هذه الكائنات الصغيرة سلطة الفعل، لكي تنسجم مع الأمور ويستقر النظام في تلك المساحة من الخلق، الأمر الذي يمكّننا من مشاهدة نظام رياضي دقيق في هذه الدائرة الحيوية.

إن الـخالق الذي حفظ الإنسانَ في نطفة، والشجر في بذرة، والدجاج في بيضة، هل يترك الإنسانَ يتلاشى وينعدم بعد الممات؟

الكائن الإنساني لا يندثر ولا يضيع هدرًا، هذا الكائن الذي ولد إنسانًا، لا يتحول إلى حيوان غدًا، وإلى نبات بعد غد، وإلى كائن آخر في يوم آخر. أجل، الإنسان -زبدة الكون وخلاصته- محفوظ في جرم صغير لا يمكن أن يُرى إلا بالمجهر.

إنه يولد إنسانًا، ويعيش إنسانًا، ويموت إنسانًا، ثم يُبعَث إنسانًا، ويحاسَب كذلك إنسانًا.

لقد ضُمِّنت شجرة الصنوبر الضخمة داخل بذرتها الصغيرة، وحُفظت قامتها السامقة -التي ستكون عليها في المستقبل- داخل هذه البَذرة الصغيرة.

معادلات عجيبة

إن “سير جيمس جان (Sir James Jeans)” (1877-1946) أحد العلماء الذين أسّسوا علم الفيزياء الذرية، عندما يقول: “لا شك أن خالق هذا الكون رياضيٌّ قدير”، فإنه يشير إلى المعادلات الرياضية التي تسيّر هذا الكون، ذلك أن كل مخلوق في هذا الكون لا يحيد في سيره وحركته واتجاهه عن المقاييس الرياضية الكونية قيدَ أنملة ولا أقل من ذلك.

كل مخلوق في هذا الكون لا يحيد في سيره وحركته عن المقاييس الرياضية الكونية قيدَ أنملة ولا أقل من ذلك.

 

إن جميع هذه العجائب -في الحقيقة- تجليات لأسماء الله “الخالق البارئ المصوِّر” و”العليم الحكيم”، ولكن “جيمس جان” وأمثاله من المفكرين يُدخِلون أسماء أخرى أيضًا تحت ظل هذه الأسماء، ونحن –معاشر أهل السنة والجماعة- نوافق على هذا الرأي إلى حدٍّ ما، وذلك أنه قد تغلب أحيانًا سيادة اسم من الأسماء الحسنى في مساحة ما، فتندرج الأسماء الأخرى تحته وتواصل فعلها في ظله.

وعليه؛ فإذا نظرنا إلى الأشياء والأحداث من زاوية التقدير والقياس وانتظام الحسابات الرياضية وانعدام ما يزعج العين من خلل أو ارتباك في الكون، فلا بد أن نلمح أسماء الله المذكورة متجلية أمام ناظريْنا بكل عظمتها وجلالها، وأن الله يقدّر كل شيء وأنه لا يعزب عن علمه وقدرته وحكمته وتقديره شيءٌ في الأرض ولا في السماء.

أصوات لا تضيع

إن جميع الكائنات محفوظة… إن جميع النباتات محفوظة بهويتها الأصلية في كروموسوماتها. أجل، كما يُحفظ الإنسانُ في النطفة، وتُحفظ الشجرةُ في البذرة، كذلك تحفظ جميع الأصوات في الفضاء وداخل عناصر متنوعة، وربما يأتي يوم تُبتَكر فيه آلات نسمع من خلالها كل هذه الأصوات؛ فكما تسجَّل الأصوات على شريط، كذلك تُسجَّل أصواتنا وأفعالنا من قِبَل كائنات نمرّ من عندها أو نعيش بينها لتشهد لنا أو علينا في يوم من الأيام.

لقد ضمّنت القدرةُ الإلهية شجرة الصنوبر الضخمة داخل بذرتها الصغيرة، وحفظت قامتها السامقة في تلك البَذرة.

ينقل أحد العلماء تجربة عجيبة مرت عليه يقول: وقعت جريمة قتل وسط مجموعة من الأشجار في إحدى المناطق، فجاؤوا بالمتهمين إلى موقع الجريمة للتحقيق معهم، ولكنهم لاحظوا شيئًا غريبًا في سلوك الأشجار؛ حيث كانت هادئة عندما جيء بمتهمين لا صلة لهم بالجريمة، ولكن ما إن جاؤوا بالمجرم الحقيقي حتى بدأت الأشجار تضطرب اضطرابًا غير عادي، وعندما تعمقوا في التحقيق مع الرجل اعترف بأنه هو القاتل فعلًا، فكأن الأشجار التقطت الذبذبات الصادرة عن القاتل أثناء ارتكابه للجريمة وحفظتها، ومن ثم فضحته بطريقتها الخاصة.

حتمية البعث

إن “الـحفيظ” عزّ وجلّ الذي حفظ الإنسانَ في النطفة، والشجرةَ في البذرة، والدجاجةَ تحت قشرة بيضتها.. هل يترك الإنسانَ -محورَ الحراك الكوني وخليفة الأرض وسلطانها- سدىً بعد مماته؟

كلا، بل سيبعثه في عالم آخر كما يبعث البذرة المنثورة في أحشاء التراب، ويتوّجه بحياة كريمة جميلة تناسب مكانته.

إن الله تعالى قد وعَد وتوعّد في القرآن الكريم بحشر تبتهج فيه وجوه، وتبكي فيه أخرى، فجاء بعبارات تبشيرية من جانب، وترهيبية من جانب آخر؛ إنه تعالى يَعِد، وهو قادر على الوفاء بوعده، إذ إن نقض الوعد لا يليق بذاته المقدسة، فهو منزَّهٌ عن أي نقصان ولا سيما إخلاف الوعد.

المصدر: نفخة البعث، شواهد الحياة بعد الموت، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.