آية تبحث عن تفسير

ظلت الفراشات مثار خيال الإنسان منذ آلاف السنين كرمز للجمال والرقّة، فُتن الناس بجمال أجنحتها الرقيقة ذات الألوان الجذابة. استحوذت الفراشة على مساحة واسعة من المعتقدات الدينية عند بعض الشعوب القديمة؛ حيث كان قدماء الإغريق يعتقدون أن الروح تغادر الجسد بعد الموت على شكل فراشة. هذا ويُعدُّ جمال الفراشة مصدرًا من مصادر إلهام الفنانين والشعراء.
وعلى الرغم من أن هذه الكائنات دقيقة في شكلها، إلا أنها حشرات يكتنفها الغموض، ولديها أنماط سلوكية معقدة تنظم علاقاتها وأساليب تكاثرها، وتمنحها قدرة التكيف مع بيئتها.

تناظر الجناحين

تستخدم الفراشة تقنية تحويل الطاقة الضوئية إلى حرارية لتساعدها على التدفئة في البرد، ويبذل العلماء الجهود لمجرد تقليد هذه الآلية التي تستخدمها الفراشة.

لو أمعنا النظر في أجنحة الفراشة، سنراها متناظرة الشكل تمامًا؛ فجناحا الفراشة متشابهان في رسوماتهما وانتظام نقاطهما وألوانها التي تتكون من أقراص صغيرة جدًّا مرتبة بجانب بعضها البعض، ولكن إذا لمسنا هذه الأقراص فسنرى أنها تتشتت وتتبعثر بسرعة. ليس على وجه الأرض فراشة أجنحتها بدون نظام، وهذا يؤكد على أنها من صنع رسام واحد أو خالق واحد عظيم لا مثيل لخلقه، يبين لنا جماله وجلاله من خلال هذه الأجنحة التي تبهر العيون وتأخذ بالألباب.

سر ألوان الفراشات

تتميز ألوان أجنحة الفراشات عن ألوان أجسام بقية أنواع الكائنات الحية نباتاتها وحيواناتها بعدة ميزات، أولها العدد الهائل للألوان المختلفة التي تظهر على أجنحة الفراشات، بحيث يعجز البشر عن إطلاق أسماء على هذه الألوان. أما ثانيها فهي وجود عدد كبير من الألوان المختلفة على جناح الفراشة الواحدة، وهي مرسومة على شكل لوحات فنية عجيبة يعجز أعظم رسامي البشر عن تقليدها، خاصة وأنها مرسومة على لوحات بالغة الصغر إذا ما قورنت بلوحات الرسامين.
أما ثالثها فهي أن ألوان أجنحة معظم الفراشات تتغير مع تغير زاوية نظر مشاهدها، وأن لها بريقًا لا يوجد في ألوان الأشياء الأخرى. أما الميزة الأخيرة وهي المسؤولة عن الميزات السابقة، فهي أن الطريقة التي تتولد من خلالها ألوان الفراشات تختلف تمامًا عن تلك المستخدمة في بقية أنواع الكائنات الحية الأخرى وكذلك الجمادات. ففي هذه الطريقة يتم استخدام تقنيات بالغة التعقيد، تعتمد على ظواهر فيزيائية متعددة للحصول على هذا التنوع الهائل في ألوان أجنحة الفراشات. إن هذه التقنيات تحتاج إلى تصاميم بالغة الدقة لبنى هندسية تقاس أبعادها بوحدات النانومتر (النانومتر جزء من بليون جزء من المتر)، أو ما يسميه العلماء اليوم بـ”تقنية النانو” (Nanotechnology).

مصدر الألوان

قام العلماء باستخدام الميكروسكوبات الإلكترونية لدراسة تركيب أجنحة الفراشات، حيث أظهرت لهم الصور البنى الهندسية الدقيقة الموجودة على حراشفها، ثم قاموا بقياس أبعاد هذه البنى، فبينت حساباتهم أن لون الضوء المنعكس عنها يتطابق تمامًا مع لون الضوء الفعلي.

تغطي أجنحةَ الفراشة حراشفُ دقيقة مسطحة متداخلة فيما بينها، وهذه الحراشف مصدر للألوان والتشكيلات الرائعة الموجودة في أجنحة الفراشات. وتحتوي بعض الحراشف على الأصباغ (مواد تلوين) التي تنتج الألوان السوداء والبنية والحمراء والبيضاء والصفراء، بينما تنتج أنواع أخرى من الحراشف الألوان بعكسها للضوء على أسطحها. ومن الألوان المعدنية البراقة التي تعكسها تلك الحراشف اللونان الأزرق والأخضر.
ولمزيد من التوضيح نقول: يتكون جناح الفراشة من مادة جلاتينية شفافة تستخدم كقاعدة لوضع البنى الهندسية، وهي عبارة عن حراشف شفافة يبلغ طول الواحدة منها 200 ميكرومتر، وعرضها 70 ميكرومتر. ويتم تحديد اللون أو الألوان التي تعكسها هذه الحراشف، من خلال التحكم بسُمكها وأبعاد الحزوز الموجودة عليها. هذا وقد قام العلماء باستخدام الميكروسكوبات الإلكترونية لدراسة تركيب أجنحة الفراشات، حيث أظهرت لهم الصور البنى الهندسية الدقيقة الموجودة على حراشفها، ثم قاموا بقياس أبعاد هذه البنى، فبينت حساباتهم أن لون الضوء المنعكس عنها يتطابق تمامًا مع لون الضوء الفعلي.
إن تحديد أبعاد البنى الموجودة على أجنحة الفراشات، يحتاج لصانع لا حدود لعلمه وقدرته، فمعظم أنواع الفراشات تحتوي أجنحتها على عدد كبير من الألوان، ولذا يلزم تغيير الأبعاد عند كل مكان يتغير فيه اللون. ثم إن الأشكال الموجودة على أجنحة الفراشات ليست مرسومة بطريقة عشوائية، بل لتؤدي أغراضًا محددة كالتخفي عن الأعداء أو تخويفهم من خلال أشكال العيون الموجودة عليها، أو لأغراض جلب شركائها للتزاوج.
وعليه فإن تصميم أبعاد البنى الهندسية الموجودة على الأجنحة عملية في غاية الصعوبة، ولعل البشر سيقفون عاجزين عن تقليدها مهما بلغ التطور في تقنيات تصنيع الإلكترونيات وتقنيات النانو.
تتم عملية تصنيع أجنحة الفراشات وما عليها من بنى هندسية، تحت سيطرة شفرات الحامض النووي الموجود في خلايا الفراشة، فكل حرشفة من هذه الحراشف، هي عبارة عن خلية حية واحدة يتم فردها على سطح الجناح، وتتشكل هذه الخلية لتنتج أشكال البنى المطلوبة. وهكذا نرى لوحات فنية في غاية الروعة، تتضاءل أمامها أجمل اللوحات الفنية التي رسمتها أيدي البشر.
وفي السنوات الأخيرة بدأ العلماء العمل على الاستفادة من التقنيات الضوئية المستخدمة في الفراشات في تطبيقات لا حصر لها؛ كالحصول على ألوان للسيارات بدون استخدام الطلاء، وكاستخدامها في مكونات الاتصالات الضوئية.

خَلْق الفراشات

ألوان أجنحة معظم الفراشات تتغير مع تغير زاوية نظر مشاهدها، وأن لها بريقًا لا يوجد في ألوان الأشياء الأخرى. إن الفراشة تستخدم تقنية تحويل الطاقة الضوئية إلى حرارية لتساعدها على التدفئة في البرد.

إذا كان العلماء قد اكتشفوا أن في قرني استشعار الفراشة مستشعرًا شمسيًّا يمكّنها من التوجه، إلا أنهم لم يزالوا يجهلون كيف تتمكن هذه الفراشة من الحفاظ على الاتجاه المطلوب في الطقس الممطر! مما جعلهم يقولون إن للفراشات جهازًا يشبه البوصلة يقيس الانحراف المغناطيسي.
وأشارت دراسة عن الفراشة إلى أنها قادرة على التوجه بواسطة بوصلة مغناطيسية، باعتبارها تقطع مسافات طويلة؛ إذ تنطلق من شرق الولايات المتحدة وجنوب كندا، لتطير باتجاه الجنوب الشرقي حتى تصل إلى الغابات الواقعة غربي مدينة مكسيكو حيث تقضي الشتاء.
تستخدم الفراشة تقنية تحويل الطاقة الضوئية إلى حرارية لتساعدها على التدفئة في البرد، ويبذل العلماء الجهود لمجرد تقليد هذه الآلية التي تستخدمها الفراشة.
تنتج الفراشات بعضًا من أعجب الألوان في الطبيعة غير الناتجة عن أصباغ، ولكن تنتجها تركيبات متناهية في الصغر تتـحكـــم فيها طبيعة الضوء، ويأتي خداع الألوان من التركيب المفصل لجناح الفراشات التي أتقنت هذا الفن.
عما قريب قد تظهر ألوان أجنحة الفراشات القزحية العجيبة التي تتغير من حين لآخر على الملابس التي نلبسهـا، فالعلماء البريطانيون يدرسون الآن الخداع البصري الذي تستعمله الفراشات لإنتاج ألوانهـا المبــهرة، ويعتـــقدون أن النتائج قد تؤدي إلى إنتاج نوع من هذه الألوان ترش على الملابس.
ومن التطبيقات الأخرى لألوان أجنحة الفراشات، إنتاج بلورات سائلة جديدة وعلامات مضادة للتزوير توضع على أوراق النقود.
تظهر أجنحة الفراشات تقنية النانوتكنولوجي، وقد جاء في مجلة ساينس ديلي أن أجنحة الفراشات تلهم الباحثين لعمل تقنيات جديدة من الأقمشة ومستحضرات التجميل إلى مجسات، والمجس (Sensor) هو أداة إلكترونية يمكنها استشعار الظروف والمؤثرات المحيطة بها، وإرسال إشارات كهربائية قابلة للقراءة.
يكشف الشكل المورفولوجي للفراشات، خصائص مثيرة للإعجاب من التكوينات متناهية الصغر النانوية التي تنتج صباغات الألوان على الأجنحة لتعطي شكلاً جذابًا، مما يؤدي إلى ظاهرة التقزح اللوني، والتقزح اللوني (Iridescence) هو ظاهرة فيزيائية وخاصية لبعض السطوح التي تظهر متغيرة اللون عند تغيير زاوية النظر إليها. وتظهر هذه الظاهرة جلية في فقاعة الصابون وأجنحة الفراش وصدف البحر. وهذه الأجنحة ذات خاصية التقزح اللوني للفراشات الاستوائية الزرقاء، يمكن أن تكون مصدر إلهام لجيل جديد من أجهزة الاستشعار، والأقمشة، ومستحضرات التجميل، وشاشات العرض.
تم الكشف من قبل العلماء عن سر اختلاف وروعة ألوان أجنحة الفراشات، حيث تم العثور على ما يشبه تصميمًا معماريًّا من الأجزاء الدقيقة جدًّا المكونة للجناح والتي تعطي هذه الروعة، وبالرغم من الاختلاف البسيط في هذه الطبقات بين السلالات المختلفة من الفراشات، إلا أنها تسبب اختلافًا ملحوظًا في المظهر الخارجي الرائع للأجنحة. ويستكمل الباحثون قولهم بأن هذه الاكتشافات سوف تساعدهم على تصميمات للألوان، توفر لهم الجودة والمادة، وتعطي تشكيلة من الألوان المختلفة، أي إن هذا الاكتشاف سيساعد على صناعة أغطية للمواد الصناعية التي يمكن أن تغير لونها أو تعطي ألوانًا مختلفة عن طريق التصميم، ولكن هذا إذا استطاع العلماء تقليد تلك الخصائص للأجنحة.

خاتمة

ما أبسطها من فراشة تنهض مع الشمس تطير بجناحيها الناعمين إلى أجواء حلم فاتن تتلـو صلواتها على منابر الأغصان، يقف الزهر والزنبق في الحدائق سعيدًا أمامها تشارك العصافير غناها، والورد ضحكه، والنسيم همسه، والنور مظهره وصفاه.. تفتن الطبيعة بألوانها الزاهية كي تحيا وتسعد في بساتين الحياة، تعيش بألوان الفرح وتطلق الحب الكامن من حناياها وترسم السعادة بابتسامات الجمال.
إنه عالم الفراشات الجميل، صاحب الألـوان الزاهية والحركة السريعة الأنيقة، وإن الأبحاث في عالم الفراشات مستمـرة لا تتوقف، لتظهر لنا كم من الإبداع في خلق هذه الحشرة الصغيرة، وكم مــن العجائب في تكوينها، بالرغم من شكلها البسيط الذي لا يوحي بهذا الكم من العجائب داخلها، لكنها قدرة الله في خلقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.