آلة الزمن في جسم الإنسان

 

هل سألت نفسك يومًا لماذا أستيقظ من نومي في ساعة محددة في كل صباح؟ ولماذا أشعر بالنعاس في الوقت نفسه كل مساء؟ ولماذا أشعر بالجوع كلما حان وقت تناول الطعام؟ لقد لاحظ العلماء تكرار هذه الظواهر من تنبه ونعاس وجوع وغيرها من أمور تحدث داخل جسم الإنسان، وقد أرجعوا ذلك إلى ما أسموه “الساعة البيولوجية”  وهي الآلية التي توقت الحوداث الحيوية، ومعظم نشاطات الكائن الحي الأخرى، فهي التي تجعلنا نشعر بالجوع عندما يحين موعد تناول الطعام، وتبرد أجسامنا ليلاً وتسخنها نهارًا.

أكثر من ساعة

والأمر العجيب أنه داخل جسم الإنسان، أكثر من ساعة دقاقة، بل وأكثر من بندول، بل هناك أكثر من ذراع من أذرع الساعة في الجسم مثلما تحمل الساعة أذرعًا للساعات والدقائق والثواني، ونلمس ذلك جيدًا في حركات تنظيم أجهزة الجسم على اختلافها والتي تعمل بإيقاع خاص وتسير وفق نظام هذه الساعة البيولوجية، فالقلب يدق بانتظام وتنشأ فيه موجة تنشيط كهربائية كل ثانية أو أقل من ذلك أو أكثر بقليل، لتحدث انقباضًا في الأذينين فينتقل الدم منهما إلى البطينين، ثم ينتشر التنشيط إلى البطينين فينقبضا ويدفعا الدم إلى جميع أنحاء الجسم.

وموجة التنشيط هذه موجة تلقائية تبدأ من جزء من أذين القلب الأيمن يعرف باسم منظم إيقاع القلب، التي تسبب انقباض القلب بصورة منتظمة متوافقة مع احتياجات الجسم، بالرغم من وجود أعصاب لا إرادية تغذي عضلة القلب، تستطيع أن تزيد أو تقلل من سرعة دقاته، فإنه قادر على العمل بصورة تلقائية، حتى ولو فصل تمامًا عن جميع الأعصاب المغذية له كما يحدث في جراحات نقل القلب.

وفي الجهاز الهضمي تنقبض العضلات اللاإرادية الموجودة في جدران المعدة والأمعاء بصورة تلقائية بإيقاع خاص يختلف حسب احتياج الجسم أثناء الهضم وامتصــــاص الطعـــام، كما يحدث التنفس بإيقاع رتيب يتناسب مع احتياج الجسم للأوكسحين ومعدلات ثاني أكسيد الكربون أثناء احتراق الغذاء فــــي الأنسجة، وتزادد سرعة التنفس بصورة تلقائيــــة كلمـــــا زادت الحاجة للأوكسحين وكلمـــا تراكـــم ثانـــي أكسيـــد الكربـــون فــي الخلايا، وهكذا يعمل كل إيقاع من إيقاعات هذه الساعة تبعًا لطبيعة كل جسم وطبقًا لاحتياج كل عضو من أعضاء الجسم، ويشعر الجهاز العصبي في الإنسان بكل هذه الإيقاعات ويتأثر بها ويؤثر فيها متفاعلاً معها بصورة متناسقة.

موقع الساعة البيولوجية في الجسم

لقد ساعد التطور السريع، الذي يشهده علم الهندسة الوراثية في هذه الأيام في إيجاد حلول لبعض ألغاز الكائن الحي التي طالما أرقت العلماء، فلقد ظلت الساعة البيولوجية الموجودة داخل كل منا لغزًا غامضًا، رغم مئات الأبحاث التي نشرت حولها، حتى تمكن العلماء مؤخرًا من تحديد مكانها في الجسم، بعد اكتشاف مجموعة من الخلايا العصبية، تقع في النهار التحتي وسط المخ، تعرف بالنواة فوق التصالبية التي تبدو أنها مركز التحكم في تنظيم إيقاع الأنشطة الحيوية بالجسم على مدار اليوم.

وتتكون هذه النواة من جزأين، يوجد أحدهما في النصف الأيمن من المخ، والثاني في النصف الأيسر، وكل جزء يتكون من عشرة آلاف خلية عصبية ملتصقة بعضها ببعض، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمناطق العليا مــن المــخ الخــاصة بالإحساس والحركة والذاكــــرة، والمراكــز السفلى الخاصة بتنظيم الوظـــائف الحشـــوية الللارادية مثل إيقاع القلب وضغط الدم والتنفس، كما تسيطر سيطرة تامة على الغدة النخامية المهيمنة على معظم الغدد الصماء في الجسم.

كما بينت هذه الأبحـــــاث بوضــــوح علاقة تلك المنطقة بالنـــــــــــوم واليــــــقظة والنشاط والخمول والانفعال والتبلد والرغبة في الطعام أو العزوف عنه والميل للجنس الآخر والزهد فيه، وأن هذه المنطقة تعمل بصورة دورية لتنشيط وظائف الجسم اللاإرادية المختلفة طبقًا لاحتياجات الجسم الداخلية في ضوء متغيرات الوسط الخارجي والبيئة المحيطة بالإنسان.

ويمكننا القول: إن هذه المنطقة هي منظم المنظمات في الجسم، وهي أشبه بغرفة تحكم رئيسية ترد إليها المعلومات عن طريق شبكة دقيقة تمدها ببينات كاملة عما يحدث داخل الجسم وخارجه، وفي تلك الغرفة توجد أجهزة كمبيوتر وحاسوبات تعمل بتنظيم الجدوال وتستوعب البيانات، وتستفيد منها، طبقًا لبرامج موضوعة، ثم تقوم باتخاذ قرارات لا إرادية، أي ليس لسيطرة الإنسان فيها دخل كبير، ويتم تنفيذ تلك القرارات عن طريق تحكم تلك المنطقة في المراكزالعصبية الدنيا في المخ وفي أغلب غدد الجسم الصماء.

والأمر الذي يدعو للدهشة، أن معدلات الأداء في هذه المنطقة تتباين بين الأشخاص، كما تتباين بين الذكر والأنثى كل حسب طبيعته واستعداده، فبعض الناس يكون في أحسن حالاته وقمة نشاطه مع بزوغ الفجر، والبعض الآخر يتأخر ذلك عنده إلى وقت القيلولة، أو بعد الظهر وهكذا.

كيف تعمل الساعة البيولوجية

لقد توصلت الأبحاث العلمية، حول كيفية عمل هذه الساعة البيولوجية داخل الجسم، وبعد أبحاث توصلوا إلى وجود أسباب جيوفيزيائية، كالضغط الجوي والجاذبية الأرضية والإشعاعات وتغيرات الحرارة، إذ لوحظ وجود عامل مشترك، يجمع بين هذه الحوداث كافة، ألا وهو الضوء.

والواقع أن أول من قام بالدراسة العلمية حول هذا الموضوع باحثة تدعى هاركر وذلك في عام 1960، إذ وجدت أن العين البسيطة عند الصرصور تلعب دورًا مهمًّا في دورية الحوداث، ثم تبين فيما بعد أن العين البسيطة هي مفتاح الدورية، وهذا ما أوحي بأن الضوء هو العامل الأساس في قضية الساعة البيولوجية، إلا أن الدراسات التالية قد بينت أن العامل المنبه ليس الضوء بحد ذاته، وإنما ما يسمى “الفترة الضوئية ” أي فترة التعرض للضوء بالنسبة لفترة التعرض للظلام من كل 24 ساعة يومية، وأن ما يطلق عليه الغدة الصنوبرية، هي التي تتأثر بالفترة الضوئية، فتعمل على خلق التزامن بين الساعة الداخلية ودورات النور وتنظم إعادة ضبط الساعة البيولوجية، كل ذلك في دورة منتظمة انتظام عقارب الساعة، تلك هي آلة الزمن في جسم الإنسان، التي تتوافق مع تعاقب الليل والنهار على سطح الأرض، وصدق الخالق عز وجل إذ يقـول في محكم كتابه الكريم؛ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(فصلت:53).

(*) كاتب وباحث / مصر.

المراجع

(1) الساعة البيولوجية ساعة لكل زمان، د. حسن حلمي خاروف، مجلة العربي الكويتية، العدد 377.

(2) الساعة البيولوجية، د. محمد بهائي السكري، مجلة الهلال المصرية، عدد أبريل عام 1992م.

(3) إيقاع الساعة البيولوجية، ميشيل دايليوبانخ، الهيئة العلمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مكة المكرمة، العدد السادس.

(4) الموسوعة العلمية نسخة إلكترونية.