خطاب المربي وسط الإعصار

في هذه الحلقة من سلسلة مقالات “خطاب الأستاذ كولن خلال الأزمة” نرصد الملامح التربوية والتزكوية في خطاب الأستاذ كولن وتوصياته لأبناء الخدمة بتقوية الارتباط بالله، ومراجعة العلاقة معه عز وجل، وإعادة التذكير بالغاية التي انطلقت من أجلها حركة الخدمة، مع مواصلة الدعاء والتضرع لأن المحن مواسم الدعاء والتضرع والبكاء.

(1) تقوية الصلة بالله منهج أصيل لدى الأستاذ كولن

الأستاذ كولن مفكر وداعية ومربٍّ ورائد حركة إسلامية تنشط في المجتمع لتعريف المخلوقات بخالقها، وإزالة العوائق من أمامها للوصول إليه سبحانه، ولنشر صورة الإسلام السمحة بين البشرية كافة. فإيصال الإنسان إلى ذاته وربه وإيصال الآخرين إلى ذواتهم وربهم يُطلق عليه الأستاذ اسم الجهاد، حيث يقول: “إن بذل الجهد إلى الداخل عبارة عن عملية إيصال الإنسان إلى ذاته وإلى ربه. أما الجهاد الآخر الموجه إلى الخارج فهو عملية إيصال الآخرين إلى ذواتهم وإلى ربهم. ويُطلَق على الأول (الجهاد الأكبر) وعلى الثاني (الجهاد الأصغر) ” ، كما يرى أن ذلك هو الغاية من خلق الإنسان “فلا مهمة على الأرض أفضل منها. إذ لو كان الأمر خلاف هذا، لما كان الله سبحانه يرسل أنبياءه بتلك الوظيفة”[1]

الأستاذ كولن مفكر وداعية ومربٍّ ورائد حركة إسلامية تنشط في المجتمع لتعريف المخلوقات بخالقها، وإزالة العوائق من أمامها للوصول إليه سبحانه، ولنشر صورة الإسلام السمحة بين البشرية كافة.

ويبين الأستاذ كولن في تعريفه للفتوة الحقيقية أنها تعني:”تشبع القلب بالإيمان الكامل، وحسن معاملة الناس كلهم، ونذر العمر من أجل الآخرين، وأداء المرء مهامه دون أن يرى نفسه متميزًا، وبذل كل التضحيات في سبيل القيم المقدسة، وانتظار ما له أجل مسمى والصبر عليه صبرًا يبلغ حد الجنون كصبر الدجاجة حتى تفقس بيضها، والثورة على كل المساوئ والشرور مع مراعاة العصر والزمان الذي نعيش فيه، ودون إهمال العقل والمنطق، والثبات وعدم الفزع من الأذى والمشقة التي تنتج عن كل ما سبق ذكره.”[2]

(2) إلحاح الأستاذ كولن على هذا البعد خلال الأزمة

وإذا طالعت أدبيات الأستاذ كولن المتنوعة والكثيرة فستجد أنه دائم الطرق على هذا الباب، باب الصلة بالله وتقوية الارتباط به، قبل الأزمة -كما وضحنا من خلال استشهاداتنا السابقة- وبعدها كذلك حيث يقول في أحد دروس أمريكا: “هناك مفهوم يعبر عن فلسفة خدمتكم هو: “العيش من أجل أن يعيش الآخرون. إنما أعيش من أجل أن يعيش العالم، من أجل أن يعيش الناس. إنما أعيش لكي يتواصل الناس مع الله، لتتصل قلوب العباد بالله، لتزول الموانع بين القلب وبين الله، لتلتقي اللطيفة الربانية مع الله، ثم ليحدثْ لي ما يحدث، لا يهمّ. يأتي الظالم يركلني لا ضير، يأتي المتجبر يصادر ممتلكاتي لا بأس، يأتي آخرون يعلنونني إرهابيا، يخرج سفيه يفتري بأننا فرقة ضالة.. دعوهم يقولون ما يشاؤون. كل يعمل على شاكلته، كل يعبر وفق طبيعته، كل إناء ينضح بما فيه، كل يترنم وفق خلقته. لا تكترثوا بهم أبدا، لا تبالوا، أغمضوا أعينكم عنهم. “وإذا مروا باللغو مروا كراما” إذا سمعتَ كلاما تافها من هؤلاء الجاهلين قل لهم “سلاما” وواصلْ في سيرك كما تُعلِّمنا سورة الفرقان.”[3]

(3) الأزمة فرصة لمراجعة العلاقة مع الله.

 لذلك فتناولنا لتوصية الأستاذ محبيه بتقوية الصلة بالله ليس من باب إنشاء شيء من عدم، بل من باب المراجعة والنقد الذاتي للسائرين في درب الحركة، ولذلك يَعدُّ الأستاذ ما أصاب الخدمة من محن وبلاء نتيجة للتقصير في هذا الجانب الأصيل؛ ففي أحد دروسه يحكي حوارا جرى بينه وبين مضحٍّ من أبناء الخدمة صادرت الحكومة أمواله كلها ظلمًا وبهتانًا قائلاً:” سمعت من إخوة كثيرين مرارا ما يلي: “أنا بدأت عملي أجيرا بسيطا. ثم جئت إلى إسطنبول، اشتريت أرضا بمكسبي المتواضع بإذن الله. الأرض أنجبت أرضا أخرى، الأرض أنجبت مبنى، المبنى أنجب مبنى آخر.. ومن ريعها أُنشئت مباني بنوكٍ.. ومنها أُنشئت فيلل.. ومنها أنشئت مساجد مثل السليمية في بقعة ما في العالم. كان الله هو المعطي يومها، وها هو اليوم يأخذها”. ثم يتابع الأستاذ كولن قوله: “يقصُّ ذلك مبتسما. يقول قلبي مطمئن، الله أعطاني والله أخذ، ولا يكفي، بل يبرر لهذا الفهم فيقول: “لعل شيئا من حظ النفس خالط هذا الكسب. لعل الحساب سيكون عليه شاقًّا في الدار الأخرى، فأخذه الله هنا ليعفيني من الحساب هناك”. هناك أبطال يفكرون على هذا النحو “هو المعطي وهو الآخذ”. سمعت العديد من إخواننا يقولون: “الله أعطانا وهو الذي أخذ. فلله الحمد آلاف المرات”.

إنما أعيش لكي يتواصل الناس مع الله، لتتصل قلوب العباد بالله، لتزول الموانع بين القلب وبين الله، لتلتقي اللطيفة الربانية مع الله، ثم ليحدثْ لي ما يحدث، لا يهمّ.

يحكي الأستاذ كولن هذا الموقف البطولي المشرف ليربط على قلوب المصابين من جهة، ويوجههم إلى المسلك السليم في مواجهة هذه المحنة من جهة أخرى، ثم يضع لمسته الإيمانية التوجيهية داعيا إياهم إلى الصبر ومنذ اللحظة الأولى قائلا: “وهكذا في اللحظات الأولى من الصدمة ينبغي الاعتصام بالصبر. فخر الإنسانية e  يقول: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”. عندما يطعنونك بالإبرة، صُرَّ على أسنانك ولا تقل “أفٍّ”. ثم يواصل: سنستمر على هذا النحو، سنصبر عند الصدمة الأولى، ولن نشكو…”[4]

(4) المحن من مواسم التضرع والدعاء

ومع التمسك بالصبر والاستبسال في مواجهة المحن يَعدّ هذا الزمن زمن البكاء وموسم التضرع والدعاء: “نحن في موسم البكاء. ليس في تركيا فحسب، بل في سوريا ومصر وبنجلادش، والعراق واليمن وليبيا وبيروت والصومال، فمنهم من ابتلي بـ”داعش”، ومنهم من ابتلي بـ”بوكو حرام” ومنهم من ابتلي بـ”القاعدة”. أليس عيبا أن نضحك أو نتنزه أو نلهو وهؤلاء يئنون؟ إن الزمان ليس زمان الترويح والرفاهية بل هو زمان البكاء والانتحاب”.[5]

ويستفيد من هذه الفرصة فيكتب “توحيدنامه”[6] ويوصي محبيه بقراءته والإكثار من ذكر الله مع التضرع والدعاء، وينبه على هذا في أحد دروسه قائلا: “عندنا رجاء واحد، اللهم اشتياقا إلى لقائك، وإلى لقاء حبيبك، تغنينا به عن اشتياق ما سواك، يا أرحم الراحمين. اللهم امنحنا شوقا إليك وإلى حبيبك يأخذ بألبابنا أخذا، وشوقا يمحو من قلوبنا كل شوق إلى غيرك. أيها الرحيم الأوحد، أفرغ قلوبنا من جميع الأشواق الأخرى. حتى الشوق إلى الجنة أزله إن كان شوقا لِذاتها. الجنة لها قيمة، لأن جمال الله هناك، ورضوانه هناك، والأنبياء العظام هناك، ومن أحبهم الله هناك. شوقُنا إلى الجنة من أجله سبحانه، وإكراما لهؤلاء الأكارم. وإلا فحُبّنا الذي نهيم فيه هو الله جل جلاله”.

(5) تصحيح المسار والتذكير بالغاية

ويؤكد على حقيقة الدنيا وغاية الإنسان منها في الدرس نفسه قائلا: “الدنيا لا تستحق البقاء فيها، إن لم يكن عيشُك فيها لغاية عظمى كهذه. هذه قناعة القطمير (يقصد نفسه)، ليس عليكم أن تشاطروني هذه القناعة.

 إن بذل الجهد إلى الداخل عبارة عن عملية إيصال الإنسان إلى ذاته وإلى ربه. أما الجهاد الآخر الموجه إلى الخارج فهو عملية إيصال الآخرين إلى ذواتهم وإلى ربهم.

إن لم أعمل على تعريف مَلك الملوك إلى الناس، إن لم أبذل قصارى جهدي في ذلك، إن لم أستطع أن أغرس محبة الحبيب المصطفى e في بضعة قلوب، إن لم أكن سببًا في هداية إنسان بحول الله تعالى، إن لم أكن هائما خلف غاية سامية كهذه، أرجو أن تعذروني سأقول شيئا أقوله لنفسي دائما، إن لم تكن لديّ غاية سامية كهذه، فسأعدّ نفسي حمارا، نعم حتى لو مُنِحتُ وسام “فاتح العالم” في مقابل ذلك. رجاء، لا تظنوا أني أقصدكم بكلماتي. لقد قلتُ ما أقوله لنفسي دائما.   تحبيب الله إلى عباده. إنه (ص) يأمرنا، حببوا الله إلى عباده يحببكم الله. اغرسوا محبته في القلوب يحببكم الله. هناك مقابلة.. مقابلة خاصة.. تَوجَّه إلى الله جل جلاله بقطرة يقابلك ببحر، تقدم نحوه بذرّة يقابلك بشموس، تقدم إليه بعالم فانٍ يمنحك عالمًا خالدًا “. [7]

إن استقصاء هذا الجانب لدى الأستاذ لا ينتهي، لأنه –كما ذَكَر- الغايةُ التي ينبغي السعي وراءها، وبذل الأنفس والأرواح والمهج في سبيلها، ولذلك سنكتفي بهذا القدر، وسيتبقى لنا في خطاب الأستاذ كولن إلى أبناء الخدمة جانب واحد فقط، وهو مراجعاته الذاتية. وقد اعتبرنا أن أولى مراجعاته في هذا الجانب هو تنبيهه على ضعف الصلة والارتباط بالله، ولذلك فالعمل على ترميم هذه الصلة وإعادة تقويتها من جديد كان الجانب الأهم الذي عمل عليه خلال هذه الأزمة، من خلال دروسه ومواعظه وتوجيهاته الأدبية والعملية.

الهوامش:

[1]. 29، إعلاء كلمة الله أو الجهاد، محمد فتح الله كولن، دار النيل للنشر- مصر، ط 1، 2001م.

[2].37، شد الرحال لغاية سامية، محمد فتح الله كولن، ترجمة عبدالله محمد عنتر وعبدالرازق أحمد، دار النيل للنشر- مصر، 2014م.

[3]. تابع الفيديو كاملا من هنا: https://www.youtube.com/watch?v=yJUSvoPniiw

[4] . تابع الفيديو كاملا من هنا: https://www.youtube.com/watch?v=xwS9fNkkRME

[5] . تابع الفيدو كاملا من هنا: https://www.youtube.com/watch?v=SImRAWX5vzE

[6]. هي مجموعة من الأدعية تبرأ فيها الأستاذ من كل حول وقوة وسبب وعون، والتجأ إلى الله وحده دون سواه. حملِّه من هنا.

[7]. تابع الفيديو كاملا من هنا: https://www.youtube.com/watch?v=QtD__Z0p7LY&t=69s